لم أعد أشاهد أيًّا من الفيديوهات التّي تأتي من سوريا، لا مشهد الجندي الذي لاك قلب جنديٍّ آخر في المعسكر المقابل، ولا مشاهد حزّ الرؤوس والتعذيب وصور المجازر وأجساد القتلى المطروحين على الأرض دون حراك. صرت أعلم أنّ هذه المشاهد ليست بعيدةً عن أيٍّ منّا، قد تحدث غدًا لنا، بحجّة التطهير أو الممانعة لا فرق، المهم هو استئصال الروح من الجسد الذي لا يعجب الكائن المسيطر أيًا كان. ليس الشعب السوري أول شعبٍ يذبح ، سبقه إلى ذلك الفلسطيني واللبناني، والعراقي والأفغاني والأرمني، والبوسني، والجزائري، كل بضع سنوات تختار يدٌ مخفيةٌ شعبًا ما يقدّم تضحيةً هائلةً من الأجساد باختلاف المقاسات، قربانٌ لاستمرار العالم دون حربٍ عالمية تشلّه، يتصارع الكبار بالصغار، ينتقون لاعبيهم وملعبهم، ويبدأون اللعبة التي قد تستمر لأعوام، من دون أن يوقفها هول الصور ونتانة الرائحة ودمار البلاد، يشجّع الكبار الصغار ويدعمونهم بما يريدون من سلاح، المهم أن تبقى تنفيسة الغضب موجودة، فإذا ما اختلفوا استعرت النيران، وإذا ما لاحت نذر حل تغاضوا عن القتل والقاتل ومدّوا الأيادي كأنّ شيئًا لم يكن منذ بداية الأزمة إلى الآن.
في كلّ مشاكل العالم كان الإنسان هو الحلقة الأضعف، الثمن الأسهل لأيّ صراع، لا يهم إن ذهب من البشر بضعة آلاف، لا يهم إن ثارت غرائزنا الحيوانية وأباحت لنا السطو على حياة آخرين لأنّهم يخالفوننا بالهوى والاعتقاد. قرونٌ مرّت ولم تشبع الأرض بعد من الدماء، ولا اقتنع القاتل أنّه ميتٌ كما يميت هو الناس، لم يفكّر أحدٌ بانتقام الأموات، بأنّ الأجساد المتراكمة بصمتٍ لا تسكت أبد الآبدين، وبأنّها تقوم حتّى ولو في الخيال تهاجم الأيادي السوداء المفصولة باتصالها عن الإحساس.
يصلح حالنا عندما يصبح الإنسان بحدّ ذاته هو الأساس، لا العقيدة التي يعتنقها تميزه ولا لباسه ولا لكنته ولا لونه ولا رائحته، يصلح الحال عندما يتوقف القتلى عن كونهم أرقام لا ماضٍ لهم ولا حاضر، كأنّهم مجرد تماثيل خدمةً لمآرب هذا ومصالح ذاك، يصلح الحال عندما تخدم القضية الإنسان لا أن يصبح البشر وقودًا للقضية. كلّ شيءٍ ليس هدفه الناس وإعلاء شأنهم لا يعوّل عليه، بل هو مجرد دوران مفرغ لا يودي إلى مكان.
الإنسان هو الحل، لا الدين ولا النظام، ولا المدينة ولا الوطن، هو من ينزف، هو من يموت، هو أساس كل شيء إن لم يكن موجود اختفت قيمة ما يحيط به من أشياء.