“إنسى عنتاب” , قالها أبي , ما زلت حتى هذه اللحظة أسمع صدى الكلمات في سماعة الهاتف , ينكسر شيء في قلبي , حتى الاجراءات التي عجلّت بها أملاً بالعودة , ربما سيأتي يومها بالنسيان .
ربما أرادني الـ”ناجي” الوحيد من تلك المدينة .
حاولت مذ زمن , أن أربط حزني و تهجيري بسنة ,, أو شهر على أقل تقدير , لا استطاعة , جميعها ارتبطت بالحزن .
ما زلت أذكر اشتياقي لعنتاب , تلك العجوز التي لطالما أحبها ناجي حتى استفاض حبّاً بها ليرفض مغادرتها شاء من شاء و أبى من أبى , في ذاك اليوم , على الطريق الساحلي .
“تعرف يا خال , صحيح ما صارلنا إلا كم يوم هون بس اشتاقيت لعنتاب”
بتضل هي جارتك يلي ضمدت جراحك كثير .
“بس يا خال ما يصير نشتاقلها , هاي مو بلدنا , مو مدينتنا , ولا ننتمي إلها , هاي مدينة نزوح , إذا اليوم اشتقنا لعنتاب و بعدين نحن إلها و بكرا نشتاق لغير مدينة , إذا صار بينا مثل الفلسطينيين يجوز ما عاد نحن للبلد”
لا يا خالو , عنتاب للسوري , مثل الشام للفلسطيني , عمرك شفت فلسطيني نسى حيفا ؟ .
لا خالو , مافي فلسطيني نسى حيفا .
مع كل رصاصة تتقلص فرصة العودة , يصبح الحديث مجرد زيارة , يسقط الموت في حضنك , يصبح أقرب , ما من تفادي له , يؤمن الجميع بالقدر , لذلك لا شيء يوقف الموت , فلنتأقلم إذاً .
تخف وطئة الحزن , بعد شهر أصبح الخبر عادياً , و ما لم تأخذ الرصاصة قريباً منك فلا يمسّك شيء ؟
ما زلت أحمل هم عائلتي الكبيرة , الناس الذين يعيشون في تلك البلاد – و جارات النزوح – , لو أخبأهم بحقيبتي , و أمضي لأي بلادٍ جامدة , لا صفيح نار و لا مخططات مرسومة , قطعة أرض لا يرغب بها أحد , نعيش بسلام , نقضي سويةً تلك المدة التي لن تتجاوز المئة عام بعد كل هذا الجحيم .
أثناء خروجي من تلك البلاد التي احتضنتني عامين , أحاول أن أجمع إشارات أربطها بنهاية الزمن , في بداية الأمر كنت أخافه , أتجاهل كل الأحاديث عن الإشارات و الرؤى أو حتى الأبراج .
أعمي نفسي عن رغبة الناس بالاطمئنان ولو كذباً , اليوم , صرت استخدم ملاحظات هاتفي المحمول , أنا الذي لطالما كرهت “مفكرة الآيفون” , أحفظها بعنوان يوحي بالخواتيم , أخبرها عن ضياعي الذي يلازمني منذ الولادة , عن الدوائر العالق فيها , اكتشف معها و فقط معها عن عجزي اللا محدود .
يزداد قلقي , منذ خروجي من ديرالزور , صرت أخاف السفر , أقلق منه , صارت العودة هاجسي الأكبر إلى جانب مرض الضغط .
صرت أقلق من أي غياب لم يكن في الحسبان , ومن الهجرة كل عام في الشهر الأول , و من الوصول لشيخوخة بدى الزمن فيها رحلة قلق مستمرة .
تزداد برودة الكوكب , سبع مليارات إنسان يقفون على أرضٍ واحدة , ليفرزوا كربوناً بنفس اللحظة .
يهذي , يتبهلل , يجن , يتسلم مسلمون بطاقات عضوية في حزب مسيحي أوروبي كان يحلل ذبحهم على الهوية . تبحث الدول في أسرار الاحتباس الحراري و كأن الأسلحة التي تدك الأرض ليست هنا , بل على زحل . يحارب صانعو الإرهاب العناصر الإرهابية . يبحث المجرمون عن الطهارة , تغتسل اليد المتعفنة بالدماء لتؤدي للعفة .
و ما زالت عنتاب تأخذني بعيداً .
و ما من قول إلا للناجي الوحيد في هذا العالم بنومته المستمرة للأزل