مادتي لـ صوت و صورة
“ديري”
على الحدود . لم يكن باسطاعته إخفاء الدهشة التي ظهرت على وجهه , انتابه شعورٌ بالحاجة للضحك , هذا حل المشاكل الدائم لديه !. لم يرد سوا أن يعبر الحدود , إلى الجهة الأخرى من العالم , أراد أن يرمم حلمه القديم و ينتهج السبيل لحياة أخرى , غير أن ما حدث لم يكن بالحسبان .
شُعيرات على وجهه حددت مصيره , “أنت هناك , يا صاحب اللحية , من ديرالزور , صحيح ؟! , نود تفتشيك” . فتّشوا كل “إنشٍ” مرت يدهم فوقه بجسده , – لو كان هناك ذرة دقيق تحت جلده لوجدوها – , لكن عبثاً أن تعبر , ارجع لمدينتك , إلى السجن الكبير الذي جئت منه , لا نحتاج المزيد من “الدواعش” في “غابة الأحلام” .
وقف مصدوماً , شريطٌ يمزج بين ماضيه و مستقبله يمر أمامه , ولدٌ تخيلي رآه انضم لمعسكر أشبال الخلافة الذي هرب منه , ودَّ طرح الأسئلة , لكنه مل , ترك هذه المهنة منذ زمن مضى . لم يعد يرغب بالكلام , لن يفعل شيء , ولكن معقولٌ أن رجلاً مثله لا يفجر نفسه ! , لا , فذلك تقليدي جداً , و هو الذي غادر بلاده كي ينهي الاعتيادية . يصرخ ؟! , يخبرهم أنهم فقدوا الإنسانية , و أن رجالاً من بلادهم هجروه . لم يكن بعادته أن صرخ يوماً . ماذا يفعل ؟! , صراخ ابنته و تهويدة الأم بجانبه تحاول تسريع أفكاره , يسكنه الجمود بالتعاون مع الحارسان الواقفان أمامه , يتجمهر الناس علّهم يسترقون النظر , و بعض الأفكار المسبقة عن ردة فعله . لم ينتظر طويلاً , وضع الحقيبة على الأرض , قرفص , أخرج آلته الخاصة للحلاقة , وضع الجوال بعد تشغيل الكاميرا الأمامية أمامه . جلس حتى انتهى من حلاقة ذقنه , اختفت الدهشة من الموقف , غابت تماماً مثلها مثل نظرات الاستغراب الأخرى .
بلادٌ ضاقت عليه .
بكل بساطة , يصدر حكماً بالإعدام , ينفذّه أتباع “ألأمير” و كأنّه آيةٌ سماوية , ببساطة يتحول أمر القتل لأمر إلهي , يحصل منفذّه على مفاتيح الجنة . هكذا تصبح بضع كلمات كافية لأخذ روح , لا أحد يسأل الأمير أين مسنده للحكم , لا أحد يسأل لماذا يُقتل المرء لمخالفته الأفكار . ببساطة , ارتدى “الشيخ” ثوب الآلهة , هو الحر ليختار من يشاء لدخولهم النار و من يشاء ليُعطى مفاتيح جنته . هم قومٌ “مؤمنين” لا يقتلون إلا بناءاً على فتوى رسمية , لا يهاجمون ولا يسرقون ولا يغتصبون إلا بناءاً على الفتوى . و صارت الفتوى ديناً لهم , سلاحاً بيد من ارتدى الدين . يقتلون الرجل , تتطاير قطرات من الفكر في الهواء , لا يعرفون أن الفكرة لا تنتهي بموت صاحبها , وما ديرالزور بأرضٍ خلت يوماً من الأفكار .
نصف آلهة .
لا تلم شعباً لم يعد يعرف طريقه , لا تبكيه إن بات يفضل كسرة خبزٍ على الوقوف ساعةً بوجه جلاده الجديد , لا تلم الشعب لإن قرر السكوت لأعوام أخرى , لا تلم الشعب إن لم يصرخ , لا تلم الشعب بعد ضياع بوصلته إن أعماه هول ما رأى . دعني أقل لك , لُم جماعةً من البشر , ترى نفسها أنصاف آلهة , لا كلّما نطقت فإنها تقول الحِكَم , فلا يمكن أن ينطقوا مجرد مقاطع صوتية . هم يرفضون الموت , و يتاجرون به , و وحده الشعب من يكون قرباناً لذلك , أما أنصاف الآلهة . فهم منارة الحياة .
خلافة.
كل حكم قام في بلادنا يستحق أن يدخل التاريخ , كل دولة أو مملكة أو إمارة أو خلافة يجب أن تكون كالموت , قلعة مسوّرة داخلها مفقود و من كُتب له الخروج فقد كانت ولادته الجديدة . كل يوم ينقص الناس , يذوبون , يتبخرون , لا أدري , فربما يذهبون مع ريح الخلافة . يختفي ناسٌ جريمتهم الوحيدة أنهم رأوا في الخليفة عار , كُشف غطاء الخوف عنهم و تجرأوا بلفظ كلام لم يلفظه إلا مجهولي المصير . تعج السجون . لا تستحي هذه الخلافة , أصلاً لو امتلكت الحياء لما بقيت قائمة طوال هذه المدة , لا يريدون لأحد أن يتكلم , لا صوت واعي يجب أن يكون في الصفوف . لم يعد الناس يطالبون فقط بمعتقلي الرأي , على تلك الأرض , أرض ديرالزور في وطأة الخلافة , لديهم معتقلي الفكرة , أو معتقلي الرسم , الكلمة , الشعر , الحب … .
من ذات الخلافة .
لم يكن هناك من داعٍ أن تسجنوه , أو تلحقوا به عار الغياب , لم يستحق ما قررتم أن تفعلوه به , لم يحاول الاتصال “بدولةٍ تحارب الخلافة” , و هل أصبح اسم الاطمئنان على ولده الذي عبر شواطئ الإغريق سالماً ذاك الاتصال ! , هو اتصالٌ من قلب أب وليست العمالة التي تدّعون , أعذروه فما استطاع أبٌ عدم إجراء ذاك الاتصال . سلامٌ و حديثُ عابر لا أكثر , لم يصدح بأسرار خلافتكم و لم يذكر مخططاتكم العسكرية , هو لا يجيد إلا لغة العواطف أصلاً . أيُّ أرضِ تلك التي تعاقب على “الأبوّة” , ربما نحتاج لإعادة تسمية الأشياء بمسمياتها .
موت .
يخبرني أخي , “أتصدّق , لم يعد الموت يثير الإعجاب” يكمل يُكمل بلهجته العامية “ هيًّ حزَّة سكّين مثل حزّة البلورة لما تجرح حالك , راس مالها وجع ثواني” , هو الذي قد ضجّ بالبكاء على قصيدةٍ كتبها والدي بلهجة عراقية , أو على مشهدٍ للتايتنك . بتُّ أفكر بأي شاكلة سيأتي الموت لتلك البلاد , بلادٌ تعرف تماماً كيف تقامر بالحيوات . يشربون الدم كما يُشرب الماء .
ديريّين .
تخيل لو أن من خرج من أرضه هو أميركي أو أوروبي من عالمهم الأول , تخيّل لو أن من مات جوعاً في الجورة بسبب النظام أو قضى ذبحاً على يد داعش هم بشرٌ بعيونٍ زرقاء و بشرة بيضاء ناصعة و شعر أشقر ينسدل على الأكتاف . تخيّل كل ذلك , هل كانت الأمم المتحدة ستلتزم الصمت ؟! , هل سيكتفي بان كي مون بالقلق ؟! . حسناً , نحن لسنا منهم , نحن ننتمي لعالمنا الثالث . لن أسرد كثيراً , سأكتفي بالفرات , نحن فراتيين و ما كلُّ الأرحام لها نعمة الولادة بـفُراتي . و لي جيلين و ما يقارب النصف أحمل هذه الصفة . و هي سقف كفايتي .
ثورة .
يضحك علينا الشهداء في السماء , يقهقون بصوت عالٍ , علينا نحن , الساكنين في البلاد المهترئة , أرضاً و ناس . لم أعرف ثورةً على مر التاريخ سامحت أعدائها , جميعها قتلت , أعدمت , و قطعت رؤوس من داس عليها طوال سنين السلطة . لماذا علينا أن نكون رحماء الآن ؟! . الخليفة يجب أن يموت , و الرئيس , و كذالك أبنائهم , مساعديهم , أعوانهم , و كذلك من لم يثر عليه و قتل الثوّار .
رسالة .
أكتُبُ هنا , أقف في هذا العالم الذي ساده ظلامٌ دامس , يُصرّ على سوداويته و أُصرّ على رسم الأحلام , أكتب و كلّي أمل أن يسمعني العالم , ولو لمرة واحدة . أملك صوتاً كما بقية من يسكنون البلاد , رغم عدم قدرتهم على استخدامها . موجودين .
السيف لم ينتصر على السيف يوماً .
تقول أسطورة تلك القصة – والتي ليست بخيالية – أن دماءاً طاهرة كانت نوراً و ناراً بوجه سيفٍ ظالم . و أن مدينةً تربعت على الفرات , كانت وردة نبتت على خط نار و ما أماتها الرصاص يوماً . فاغمض عينيك و أرمي ما في رأسك من أفكار , و تخيّل مقبرة جماعية , الرئيس , الخليفة , الأمير , و كل طاغية مرّ . و أنت تتحدث عنهم بتاريخٍ مضى مع كأس الشاي لشبابٍ من الرقة و الحسكة و دمشق يسألونك عن ما مر على ذاك الجسر حتى أتعبهم هكذا بالترميم .