-١-

حلب .

لا إمكانية لشيء في هذا العالم أن يصبح مهزلة أكثر من الموت , الجثث المنتشرة , أجسادٌ فارغة , حلب ,التي كانت تضج بالحياة , لم تفرّق رائحة الموت بين الصغير والكبير , النساء و العجائز , شممناها , لم تكن إلّا صوراً تٌعرض علينا عبر شبكة الانترنت , رأيتُ الموت بلا هيبة , بلا تلك الطعم التي لطالما ملأت أفواهنا بالمرارة , تلك الطفلة , جالسة بجانب جثة أمها الهامدة , ربما تنتظرها لتستيقظ إلى الحياة ويرجعون لمسكنهم آمنين .

صار مُهمّاً معرفة من قتل , صار مهماً أن نتبادل الاتهامات و نعرف الحقائق , بل و نقتص من القاتلين ,هذه المرة كان الموت فجًّ ,  حصد مئات الأرواح .

الموت الذي أتانا من حلب , وقبلها الرقة , و قبلها الغوطة و من كافة أرجاء سوريا , كل هذا الموت , و مازال الثمن غالياً , لم يستكمله الشعب بعد ,الثمن غالٍ , ربما بحجم الشعب .

-٢-

“علامات يوم القيامة”  تلك الجملة التي ما توقّف صداها في منازلنا منذ عشرات السنين ، كيف تتوقف و “العلامات الصغرى” قد حدثت كما قال أستاذنا في المدرسة ، إذ كانوا حريصين على تلقيننا الدين في كل مكان ، رغم أنهم لم يعذّبوا أنفسهم و يجدونه و إيانا في القلوب ، “تَطلِعُ الشمسُ من الغرب ، يحتشد الناس ، بلا ملابس جميعاً ، وتقومُ القيامة” ، منذ خمسة عشر عاماً أُراقبُ الشروق ، أبدأ يومي بالاطمئنان أنه ليس اليوم الموعود ، رغم أن مشهداً يزورني في الأحلام دوماً أنني سأكون نائماً في ذلك اليوم ، استيقظ اليوم – ونحن الهاربين عموماً لا نرى الشمس –  وفي الآونة الأخيرة بُتنا نعتمد على الفيسبوك ، تمرّ صور حلب ، يحتشد الناس ! ، منهم بلا ملابس يا الله ! بلا روحٍ أيضاً ! ، وما من قيامةٍ إلهيّة قامت ! ولا حتى بشريّة ! .

أقطع عهداً على نفسي ألّا انتظر الشمس يوماً ، فاتنا اليوم الموعد ، فُتِنّا بالموت يا الله !

-٣-

بدأت بأخذ العديد من الصور لكثيرٍ من الأماكن التي أحبها في مدينة عنتاب التركيّة ، و في كلِّ نقاشٍ بيني و بين نفسي أضع تبريرات تدور حول قرب المدينة من الحدود السورية أو قرب داعش منها و ما إلى ذلك .

الآن ، تبعد المدينة التي أسكنها ثلاثة آلاف كيلومتر عن عنتاب ، ما زلت ألتقط الصور للأماكن التي أحبها ، والتي لا أحبها أيضاً ، صار التبرير يدور حول خروجي من دير الزور دون عودة ، رغم أنني لم أودّع أمي آنذاك ، ولم آخذ ما يكفيني من ملابس ، حتى أن سريري بقي على حاله كي أعود ، و لم يٌكتب ذلك لي ، اليوم صباحاً أرى صور لـحلب ، صور لمناطق سيطر عليها النظام ، استطعت أن أكسب سبباً جديداً ، كلّف الناس خسارة منازلها ، يا ليتنا لا نبرر لأنفسنا ، يا ليت ! .

-٤-

يؤدون دور مساعد “عزرائيل” , نموت على يد روسيا , أمريكا , النظام , داعش , النصرة ، و كل الميليشيات الداعمة لهم.

لو يذهبون جميعاً لبقعةٍ من هذه الأرض , صحراء نيومكسيكو مثلاً , هم يريدون الموت , فليتقاتلوا , حتى يفني أحدهم الآخر , أو يفنون بعضهم , و نبقى نحن هنا , أو في حلب ! , من يرغب إكمال الحياة بطبيعتها , دون أي طرفٍ آخر .

يموتون هناك , الانتحاري , حامل آلة القتل , و حتى جندي النظام الذي بات لا يقبل إلا بموت العائلة كاملة , لم يعد يرضيه خروج الطفل ليخبرنا بموت عائلته .

-٥-

الخبر .

تبدأ المذيعة الخبر , “عشرات القتلى في حلب في قصفٍ الطيران .” , تسترسل المذيعة , تبدأ النشرة “ قامت قوات من المعارضة السورية بقصف على أحياء حلب الواقعة تحت سيطرة النظام رداً على قصف الطيران“ . تتلو الخبر نفسه , بصيغة مجهولة , و يكمل من فنوا أنفسهم للحياد بالتوضيح و تمديد الخبر على حسب الحاجة , يتكلمون بلا استحياء , لا يخجل من يتحول إلى ببغاء أن له رسالة إعلامية بشكل رئيسي , وإنسانية أولاً .

لا شيء صحيح , لا شيء صادق , دمى معلقة بخيوط العار يرددون حياديّتهم .

-٦-

حلم .

لأرواح من حلموا ببلادٍ لا تتراقص على حافة القبر , لا تفرغ دماء قاطنيها في جوفها , لا تأكل من عليها دون أن تشبع .

حاول أن تساعد حلب أينما كنت , فقد ضحّت في سبيل ألّا نكون أنت و أنا مشروعُ جثة .

اشتعلت لتفرش أرضها مخيمات , ليحمل أهلها عبئها , لتتحول إلى جبهاتٍ في وجه خلافة قادمة من الشمال و فيدرالية من الحدود البعيدة و نظام يستند على حلفائه ليتكاثروا عليها وحيدة .

-٧-

إلى حلب .

صدّقيني بتكاثرهم يحاولون أن يتقّوا شر الأسوأ بعد ما ذاقوه منكِ .

يا حلب ، آلهة الصابرين ، المرابطين ، القائمين ، الساندين ، المحتاجين ، المكلومين .