مادتي لموقع صوت وصورة | Sound and picture

كيف نشأت “داعش” ؟

في كلِّ مرةٍ أحاول الإجابة على هذا السؤال ، يدور الفُلك الدائم للأجوبة حول كمية برود المشاعر ، ما الطريقة التي تجعل شاباً في مقتبل العمر يتحول لقنبلةٍ متنقلة، يفعل الأمر و كأنه يفتح الباب لعوالمه الخاصة ، وكأنه ما أنهى حياته بلحظة، لا يتردد، لا يتوقف عند رؤيته لشبابٍ يضحكون، أو طفلٍ يبتسم في وجهه، ولا حتى طفلٌ خاف من نظرته و شرع يحضن قدم والدته، لا باص النقل العمومي ولا الموظف المنهك ولا حتى أزهار الحديقة المتدليّة على السور، ولا هراءٌ استفزونا به لستة أعوام، سمّوه إنسانية .

يُولد الطفل في حلب، قبل أن تطأ قدماه الأرض، يتعلّم ألّا يحلم، لا نجوم له في السماء، وفي أفضل احواله يتطلّع لرؤية القمر، التفكير بالصعود إليه جريمة، لا يفكر بذلك، تقول جدتي إن المواليد من الذكور يولدون و رؤوسهم للأسفل أما الإناث فتكون بالوضعية المعاكسة ، إلّا في حلب ، يولد جميع الأطفال و أعينهم شاخصة للسماء ، إذ لربما هناك طائرة  حربية تقطع أنفاسهم قبل قطع الحبل السُرّي ، و لربما كانت صرختهم للأوكسجين الأول هي الأخيرة أيضاً ، ولو كان الأمر بأيديهم لربما عادوا إلا الأرحام ، ولو اختلف هذا السيناريو ، سيكبر و هو شاخصٌ للسماء ، و إن حان الأجل ، امتطوا غيمةً و عادوا للسماء ، السماء التي ما حفظوا غيرها .

الأطفال في حلب يكبرون في الأرحام ، أو لربما ولدوا كباراً أصلاً ، يبلغ من بلغ في الرحم 6 أشهر ، يمرُّ عليه صدى خمسون غارة ، منها ما كان تباعاً و منها ما كان بالتناوب مع المدفعية ، يتشقق جدار الرحم إثر صرخةٍ كانت ردّة الفعل الأولى لأمّه بعد عودة جسد والده فارغاً من الروح ، ممتلئاً بوصيّة ، وانتقامٍ يوزع بعدالةٍ عليه و أخوته و والدتهم الأرملة ، هنا يتعلم بشكلٍ أساسي أننا لا نعرف العدل إلا عندما نتلقى الظلم أو نخطط للانتقام له .

يكبر و هو يرسم دوماً القذيفة ، أو الرصاصة التي لم تقتله بعد ، بقايا منزله ، ومن يدري ربما كان له ما يكفي من الحظ ليحصل على لعبة ، ولو فرضنا ذلك سيغطيها الغبار .

يزرعون في حديقة منزلهم ، منزل النزوح – إذ أن منزلهم الأول تدمّر – أشلاء متبعثرة ، و يداً صغيرة ، كانت كلّ ما بقي لهم من منزلهم الأول ، يؤمن الطفل ، والذي نفرض أنه ما زال طفلاً بعد كلّ ذلك ، أن هناك صديقاً واحداً له في الحصار ، وكل من تبقى أعداء ، نؤمن نحن أن الأرض لهم ، و الحياة لهم ، والموت لهم ، و لنا ، علينا ، لعنتهم ما حيينا .

أما الشباب ، و هنا لا أنوي التخصيص أبداً ، أقصد الجنسين ، أما بالنسبة للأعمار فلا عِجَّزَ في هذه المدينة ، يقفون في حلب ، ويقف الوطن بأكمله خلفهم .

يصمدون هناك و رغم أنهم أساطيرُ هزمت ثلاثُ دول و حزبين ، لا يظهرون للعالم ، يقاتلون و هم يصمّون آذانهم ، إذ لا كلام ينفع في “شخرة” الطائرات ، لا يعرفون التصنّع بالكلام ، تشتعل الأرض ناراً تحتهم ، ناراً حقيقة تأبى معجزةً تكون برداً و سلاماً عليهم ، يرحلون من مغيب الشمس حتى مغيبها ، ينتظرون إشراقة نصر ، خلف الأفق ، ينظر بعين الله ، وظهره لنا .

بالرغم ممّا مرّ عليه ، هو ليس انتحارياً ،ولا مجاهداً ،ولا متعطشاً للدماء ، ترك خلفه أهلاً ،زوجة ، عملاً ، أمناً و استقرار ، ليحرس الوطن ، آخر من تكلمت معه هناك ، لهُ طفلٌ رضيع لم يتمم شهره الثالث ، لهُ زوجةٌ صابرة ، تعرف أن دماء زوجها سيكون سُقياً للأرض ، يطهرها حتى ثورةٍ قادمة ، و للعلم ، هو ليس وحيداً ، لهُ أمٌّ و أب ، و أخوة و أخوات ، و أربعة رفاق ، هؤلاء تحت التراب ، دفنهم تِباعاً ، لم يحاسبنا عليهم ، ولم يطلب مالاً أو طعام ، رغم أنه من يدافع عن الأرض المباركة ، بالدماء و الشهداء ، يقاوم كي لا ننسى وجوه أعدائنا ، يرسم بوصلة العالم من جديد ، قبلته اليوم حلب ، قبلتنا اليوم حلب ، هو سيبقى هناك ، هو لن يترك السلاح ، ولا الساح ، هو الآن يحرسنا ، يحرس الشمس و القمر و الغيوم و السماء ، يحرس كل حبيبات أبناء الوطن من الاغتصاب .

ليس أمراً عادياً أن يجري كل هذا في حلب ، ربما الوطن يقضي ساعاته الأخيرة ، أو المجتمع ، أو الإنسانية جمعاء ، وكأن الأمر أصبح عادياً أن تُخفت كل هذه الأرواح! ، لم يبقى إنساناً في بلادنا ، الشرقية ، تعرّينا اليوم حلب ، هي نموذجٌ مصغر عن عالمنا كلّه ، حتى في التفاصيل الكونية ، مثلاً ، من يُباد الآن ، هي حلب الشرقية ، هي لعنة الشرق علينا ، و من يرقص فرحاً و يهلل للقاتل ، هي حلب الغربية ، لعنة الغرب الفاقد للإنسانية أيضاً علينا .

غصّةٌ قلبية ،  أعتقد أنني سنتركها إرثاً للأولاد ، ألا يكفي أن نورثهم الهروب من ثوراتنا ؟ ، أو خذلان حلب ؟!

كنت أظن أنني أقدر تحمّل كل شيء ، و أنا ابن أوائل العشرينات ، لم أستطع تحمّل حلب ، الآن هي على صدري عبءٌ ثقيل ، أُسقطُ كل ما يدور فيها على حياتي ، كم نحن ضئيلين أمام العالم ! ، فُرض علينا الموت بحجم سعينا الحثيث للحياة ، بعد أن باتت الحريّة من الكماليات ، كم من المجازر سيحتوي قلبي بعد ، كنّا من الهاربين ، كلنا من الهاربين ، و لكن الإعصار لم يتوقف عن شدِّنا ، نتعرى اليوم أمام أنفسنا ، نرى الخوف في أعيننا ، يتجسد في كل شيء ، نفكر بالموت أكثر من الاستمرار ، تعلمت في الثورة أن لا احد يشعر بنا ، نعيش معهم على ذات الأرض ، ولكنهم يظنون أن ما يجرى هو في كوكب الشرق البعيد ، وحيدٌ أنت دون سواك ، لا أحد يهتم إن متَّ أو عشت ، ما دام الأمن يعمُّ العالم ، يبقون هم على الشجب و الاستنكار ، و إن صار الشهداء بالألاف ينشرون بياناً ما ، تنقم عليهم ، يعمون أعينهم و تُصمُّ الآذان ، و تتعلم الكره أكثر .

في حلب ، هنا أقصدها كبقعةٍ طاهرةٍ تمتد حتى هنا ، تعلم أن العالم ضدك ، لا يفرق معهم غياب أجسادنا ، سواءً كانت فوق الأرض أو تحتها ، ندرك أننا لا شيء ، و تنظر إلى حلب ، ترى اللا شيء الصامد المحارب ، هم في حلب و نحن جميعاً في العراء ، غرباء في العراء .

تبتسم لستِّ سنواتٍ من الانتصارات ، و العالم مجتمعٌ لمحاولة دثرها ، و تكبر حلب ، تكبر تكبر تكبر لتصبح بحجم العالم كلّه ، وتشرق اليوم حلب بدلاً من الشمس ، وتنير غصباً عنهم ، و عنا ، التاريخ و الحاضر و الماضي ، و مستقبل كلِّ وطنٍ جميل .

آه تذكرت ، كان السؤال “كيف نشأت داعش؟” ، بذبح الأوطان يا عزيزي ، بذبح الأوطان .