وحيداً بينهم لا يطالب بالموت، لا يرفِقُ شهادةً مع نصر، نصرٌ نصرٌ فقط، بين جموعٍ سمّوها منفى الثورة، اختصاراً قالوا “عنتاب”. مُصرّاً أنّ البقاء موجعٌ أكثر لِمن ثار عليهم. التقيته باسمَ الوجه، رغم أن الابتسامة لا تُعتبر لحظةً استثنائيةً عند ربطها باسمه، هذا حاله الدائم، و لأنَّ “مع كلِّ ابتسامةٍ خير” كما تقول لي جدتي، كان يرتسم على جبينه عاصٍ وبليخٍ وفراتين. فراتٌ نعرفه، نراهُ في وجهه كلما اشتقنا، وفراتٌ شققناه معاً، مرسومٌ بالتوازي مع طريق عودتنا، من سلميّة حتى البوكمال، رغم تعليله الدائم أن هذه الخطاط ما هي سوى إيضاحٌ من الزمن أن للأعمارِ حقَّها، لا يهمّ، لكلٍّ منا ما يريحه من الفهم.
اللقاء الأول، بدأتَ تُعلمني على الكاميرا، كُنتَ مصرّاً على إتمام ما علينا قبل أن نطالب أحداً بالوقوف معنا، حملتَ الكاميرا، مقطعٌ قمتَ بتصويره في درعا، مقطعٌ ثانٍ، ثالث، رابعٌ …، للمرة الأولى، أرى حقيقة ثورتنا من خلف الكاميرا، كانوا يأخذون المقاطع للمشاهد كدليل، يا دليلي، بكل ما للكلمة من معانٍ تحملها فصحى و”عاميَّة”، بفتح الدالِ أو كَسرِها.
كُنتُ التَرِكَة التي لها من اسمك نصيب أكثرَ مما لك منه، وحيدةً ما أورث سواها الوطن لنا، نظامٌ، خلافةٌ، إمارةٌ، وفيدراليّةٍ في الشرقي المُقصى.
يا عزيزي، “مُتأبط الكاميرا”، شهيدي الجميل، حاضنُ للروح التي ما ملكتَها بعد وهبها لذاك الوطن، رسمتَ الحكاية، سردتَ الألم، خلّدت ذكرى “الجميلين”، الكاميرا أمسكت يديك، وكلّ ما حلمتَ به إيصال الصورة، بحقيقتها. يستغرب الناس من كلام محبّيك بحديثهم عنك بصيغة الحاضر، ولربما يظنون أنَّ مسّاً أصابهم، أقول لهم أنك هناك، في ألفِ مواطنٍ صحفي، انتشلتَ الكاميرا قبل أن يجفّ التراب، قبل أن يوجد حتى، وتسجّل الأحداث، بكلِّ ما أوتوا من ثورة.
رغم أنّي وللصراحة، أشير معظم الأحيان لصورتك المعلقة على الجدار، روحك، فلتدعنا نحن لسرِّنا، وهم للوطن، على أيّة حال، كلاكما تشغلان القلب.
سأنتظر، الجميع يعلم “حقد” الانتظار وكرهه لنا، خصوصاً لمّن اعتادوا أن يسندوا حِملهم عليك، مثلي، لضحايا الفقد الأكبر!، تطلق لغتنا العربية، على المنتظرين، مثلي أيضاً، ضحايا الشوق، تظلمنا اللغة حتى في الكلام، ظلمت كلّ منتظري الأحباب، ليس بالإمكان فعلُ شيء.
يمرُ عامك الأول، بعد ليالٍ عجاف، غربةٌ ثانية، أقداحُ نسكافيه أضعافَ عدد الأيام، والتي ما ذقتها يوماً، أكتفي بإعدادها، استنشق منها ما يكفيني قُوْتَ يومي، قربان النسكافيه يا خال، قربانك.
كُن مطمئناً، لم، ولن تغب عنّا أبداً، وما زلتَ أجملَ ما صادفتُ على هذا الكوكب – رغم أنني زرت ڤينيسا -، تطفو في العيون، من أحبّوك أكثرهم، قادتهم صدفةٌ للقائك، والكثير من الحظ.
يا ربيعي، وأقصدك فصلاً، ومعنىً “ديريّ” حميمي، إذ أتيتَ بعد شتاءٍ أشبعنا رعداً، وصرتَ صديق. علّمتني أن الشهداء مهما زاد عددهم يبقون جميلين، هم حاجتنا الأساسيّة، علّمتني أنّ أهداف الثورة تُأخذُ من أفواه الثوّار جميعاً، أنّ بلاداً رسمت لي صورتها وليس على كرسيّها أسدٌ، سنجدها يوماً ما، وأنّ الثورة منتصرةٌ رغم كل الأخطاء، ثورتك الحمراء، بالورود والدماء، الطاهرة منها.
أتصدّق، لم أعد أخافُ الموت، لا يثير الإعجاب فيَّ، أنا الذي كنت أضجّ بالبكاء بعد إصدارٍ رأيته ذات ليلة، أو منشورٍ على الفيسبوك نبّهنا فيه أحد الشهداء، قبل أن يكسب هذا اللقب. لا أقدر على ذرف الدموع، لم يقسُ قلبي، ولكن قمراً ما غاب عني أغناني عن الثرى، قمرٌ ما سطع إلا وكأنّه بنصف شهر، يا أنصاف الشهور.
رغم كلّ الكلام، لا أنتهي، أشحن روحي بك، ومضة الأمل البارقة في عينيّ في كلِّ مرةٍ أنظر فيها للقلب، كلِّ مرّة أرغب بوطن، أرغب بالحياة.
فراگك هزهز اركاني ولي خل
أيا من چنت إلي سلوه ولي خل
الناس الها خوال اتفل ولي خال
شمس ضحويّه ماينطي گُفى
عسى لا جدمي ظل سالم و ناجي
ويجي كانون بفراگه و انا جيه
يربي شلون الي خاطر و (ناجي)
غريب الجرف يشكي من الجفا
مالي ثورتكم .. أتت على .. قوتكم .. رحل الكثير .. ولم يبقَ سوى مقاطع النصر التي نكررها .. ونبكي على من كان فيها .
إعجابإعجاب