“هي بلادٌ ثكلتنا و منذ ذاك الثكل ، ما قبلت بنا أمٌّ حتى بالتبنّي .” ، كُنت مغادراً لعنتاب ، بعد ارتباط هجرتي بالشهر الثاني من السنة ، دون عودة ، إذ لم يعد باستطاعتنا أن نتساوى بحقوقنا حتى مع الطيور .
هُجِّرتُ من الرقة منذ ثلاثة أعوام ، وعاودوا الكرُّة بتهجيري بعد عامين تماماً ، لا أظنّهم قاصدين ذلك ، ولكن الأيام دِول ، وهذه الأيام لهم ، أو للدقِّة ، آخر ثلاثة أعوامٍ لهم .
حاولت منذ انطلاق الثورة ، أن أربط أحزاني بسنة ، أو شهرٍ على أقل تقدير ، لم أستطع ، يُحاصرني الاغتراب كل يوم ، وكأنه يومي الأول . تتضاءلُ فرصة عودتنا يوماً بعد يوم ، حتى عندما ترد بأطراف الحديث تتلقى تهمة الجنون ، تفتح شبّاك الأمل في الرِئة ، مهما اتسعت أو ضاقت تبقى خانقة ، يتربّى الألم في أحضاننا ، يُصبح أقرب فأقرب ، ولا إمكانية لتفاديه ، لا شيء سيوقف هذا هو القدر ، فلنتأقلم إذاً . أخاف أن يغزو الشيب شعري ، بدأت بعدِّها منذ عامٍ إلا قليلَ ، كان لي أسبوعين في ألمانيا ، وعلى الرغم من شعيراته التي لا تتجاوز العشرات ، وتطفو دائماً على السطح ليقتلعها الحلّاق ، ولكن عشرات العناصر منذ ثلاث سنوات شكلّوا دولةً حرمتنا من بلادنا الأصيلة و المؤقتة ، زرعت فينا خوفاً من كلِّ غزو .
صديقتي من لبنان ، تزور عنتاب اليوم لتحدثنا منها ، ولو أرادت دخول دمشق لكان أكبر همومها ماذا ستفعله خلال الساعة و نصف داخل السيارة أثناء توجهها إلى هناك ، هي ليست مثلي ، وُلِدت لبنانية و تجتمع مع عائلتها متى أرادت ، حتى أنها تدخل المطار ولا يرجف قلبها عند ختم الجواز ، تستطيع زيارة أرضي و اغترابي ، و المرور بجانب منزلنا – المؤقت رغم تجاوزنا العام الثالث و نحن نسكن فيه – و أنا غائبٌ عن تلك الأراضي ، لم تولد بمعلقةٍ من ذهب في فمها ، ولكن عشرون ورقةٍ تحملها معها كافية لتكون أفضل مني .
يولد السوري بمرضٍ ، ليس بجسده أبداً و لكنه يؤثر عليه لاحقاً ، أو ربما هي مجرد نبوءة تعلمناها صغاراً أن الأوطان تختفي بمرور الزمن ، وأن الكبار سيموتون بحسرتها و الصغار ينسونها مع الأيام ، الأوطان التي لم تعد تسكن إلا في مخيلاتنا ، نحن اللاجئون ، مقبرةٌ كبيرة مفتوحة لمصراعين ، يتجلبب قسمٌ منها بالسواد ، نرى الوطن كمأساة ، ويوصمنا بعلامة فارقة عن غيرنا ، و نستمر باللحاق به على غير أرضه ، ونستغرب أننا لا نجده .
نعيش في خيبتنا ، و عدم قدرتنا على التأقلم ، لم يعد وطننا كما عرفناه ، ما عاد يتَّسِعُ لأحلامنا ، ولا يتكلم اللغة التي نعرفها بعد تعدد لغاته ، هذه الحقيقة البعيدة عن سرابنا ، ونبحث عن خيطٍ يربطنا به بعيداً عمن هم تحت ثراه ، نحاول إقناع أنفسنا بأن يدنّا التي تمتد لمصافحة الأهل و الأصحاب ليست مجرد أوهام ، كلّ ما فيه تغيّر ، من كنّا نلعب معهم في الحارة ، ماتوا إما بقصفٍ أو سكينٍ أو ربما رصاصة طائشة من صديق ، من رافقونا الدرب أرخى عليهم زماننا ثقله ، و من بقي قد تغيّر ، أو رمى عليهم غيرهم أقداره ليمضي .