حنا يعقوب أو سليمان عز الدين, المنفي لاثني عشر عاماً في بلاد البلقان, هكذا يعرّف الكاتب ربيع جابر بطل روايته “دروز بلغراد” يَصف فيها هشاشة الإنسانية في عام 1860 في ظل الحروب الأهلية التي عاشها مسيحيو و دروز لبنان و تتحدث عن إصدار الفرمان العثماني الذي ينص على ترحيل 550 درزياً .ركّزَ الكاتب في مقدمته على أنها روايةً من نسج الخيال, وأي شبهٍ مع الواقع هو محض صدفة .

عزيزي ربيع جابر, سأروي لك واقعاً لم تدخله الروايات, عن “أهالي الرقة” و قد تستغرب لوهلة ذكري لأهالي الرقة, دون تحديد عربي أو كردي, مسلم أو مسيحي, أو أي تفاصيلٍ دينية أو طائفية أو عرقيّة أسلفت ذكرها في روايتك, إذ أن في واقعنا البعيد عن الروايات يكون فقدان شخصٍ من أهلك لعنة باقي العمر ولا ينتهي بإغلاقك لصفحات الرواية, حيث يكون الجرح يؤلم بدموعٍ حقيقيّة و دماءٍ تلطخ ثيابك لا كتابك, وبعد ما يقارب قرنين من روايتك أورد لك حكايةً أي تشابه بينها و بين الواقع هو مقصود و للدقة لا يساوي إلا القليل لما يحدث لآلاف الشخوص منهم .

أهالي الرقة, الذين خرجوا ذات ثورة في صباحٍ تفتّحت فيه زهور الحرية في قلوبهم, إسوةً بباقي أيامهم التي رفضوا أن يكونوا فيها عبيداً لأحد, لم يعرفوا أن إناء الزهور هذا بحاجة سقايتها لدمائهم, ومنهم من عرف, ولم يكن لديه أي مشكلة بذلك, و سقوها دون تراجع, حتى باتوا أحراراً بكل ما للكلمة من معنى في ربيع آذار الخير, منذ أعوامٍ خلت .

أهالي الرقة, قصةٌ واقعية, تتحدث عن دين الحرية, بكل طوائفها المتنوعة و الانتماءات, جنباً إلى جنب في طريق الحريّة, ليواجهوا تعصباً و طائفية من باقي التابعين, من لا يهمّهم حياة أحد, وخصوصاً حياة أبناء أول مركز مدينة محرر, أبناء عاصمة التحرير, و رغم كل حروبهم, القوميّة بوجهيها أو الدينية, لم يستطيعوا نفي الحريّة عن أهالي الرقة, رغم نفيهم لمعظم الرقاويين, بقي الغاصبون هم الخاسرين .

تظهر أخبار الرقة على شاشات التلفزة, يقوم صديقي الأوروبي و منذ بدء تدفق اللاجئين المهجّرين من قِبل النظام و داعش و قسد و من شابههم بالأفعال و خالفهم بالرايات, بتموين علبة إضافية من النسكافيه في كل مرّة يشاهد تلك الأخبار, يقول أنّ العالم يتجه إلى الثقب الأسود, الذي سيبتلع الجميع, أتجاهل حديثه تماماً, أعمي نفسي عن مقارنة نمط حياته مع أي نمطٍ آخر من حياة السوريين, بما فيها نمطي البعيد كل البعد عن الرقة, أنا الذي أنام و استيقظ, بإرادتي, على صوت المنبّه, لا قذائف ولا صواريخ ولا غارات, أحاول التفكير بعقل, في أمورٍ تحدث ولا تمّت للعقل بصلة.

منذ خذلاننا الأول بعد تحرير الرقّة, و أحدد الأول هنا, إذ أننا توقفنا عن العد مذ أصبحت خذلاننا موهبةً لمن يمارسها بعد أن اكتسب الخبرة على إثر تكرارها, أصبحت أزور الأماكن التي أحب, مطعم الروضة, حي الثكنة, حارات الفردوس, شارع النور, أوجه لها رسائلي الحزينة, ذلك كان قبل أن تصبح الـ”كيبورد” أحد أساسيتنا الحياتية لنراسل أهالينا, من بقي في تلك المناطق, أخبرها عن ضياعي, عن أمورنا العالقة, و عن ضرورة بقائها في قلوبنا, تسندنا, وأنا أكتب إليها حتى الآن, أبكي لها, أبكي و أكتب, أبكي عجزنا اللامحدود لها .

أخاف, يتفاقم خوفي, صرت أخاف من كل حربٍ دائرة, من أي مشكلةٍ بسيطة, إذ سيعتمدون الرد بالحرب على الإرهاب, الذي يفتك بأهلنا دون الاقتراب من الإرهابيين, صارت الحرب المزعومة على الإرهاب هي هاجسي الأكبر, بجانب مرض الضغط, أخاف من ارتفاع الضغط المقيت الملازم لي, ومن غاراتٍ متكررة كل يوم. أخاف أن أصل شيخوختي غريباً لا أهلُ ولا ديار يبدو فيها العمر امتداداً طويلاً للخوف, ترتفع حرارة الأرض, تنتشر رائحة البارود أكثر, مئة ألف إنسانٍ بمئتي ألف انتماء يطلقون الرصاص و القذائف و الصواريخ بذات الوقت, إلى بقعةٍ قلبيّة بالنسبة لي أكثر من كونها جغرافيّة, يبدو أنهم وجدوا ثأرهم جميعاً, من مقتل الحسين إلى عملية حرب العراق الأهلية في 1994 إلى تفجير أبراج التجارة حتى ثقب الأوزون و الاحتباس الحراري, وقرروا أننا نعيش في العتمة, ولا حلّ في إنارة عتمتنا إلا بصواريخهم, وحرق أجسادنا .

أخاف خوف فؤاد سالم, فؤاد “الخايف العمر يگضي و خوفي ما نوصل وطنّا, ولو وصلنا هناك خايف نلقى خلصانة أهلنا” .

 

مادتي لموقع صوت وصورة