عزيزتي جُمان,

نصل الرسالة السادسة عشر, أواجه صعوبةً بالكتابة بيدٍ واحدةٍ فقط, إذ أضع الثانية على القلب, هي عادةٌ قديمة, كان من يُذكر أحد أحبائه أمامه, يضع يده على القلب من فرط الشوق, ما يزال الأتراك يمارسونها عند ذكر شيوخهم, ها أنا أقوم بها أثناء كتابة رسالتي هذه لكِ, يا قدّيستي, يا جُمان .
للمرة الأولى أشعر أن الكلام أكبر من الرسائل, أكبر من الأوراق, أكتب لكِ بلغة الشوق, لغة المحرومين, المُهجّرين, لغة من لا مأوى لهم سوى أوراقهم و قلوب الأحبّة, لغة السوريين, آوي إلى رسائلك, كسوريٍّ باتت معه أوراقه الثبوتية الكافية لينام الليلَ مطمئناً, كسرمدَ في حضرةِ طيفك, طيف الجُمان .
ترددت قليلاً قبل الكتابة لكِ, خفت من قولكِ أنني أكتب لكِ عندما احتاجك فقط, هل يكتب شخصٌ أبجديته منكِ فقط عند احتياجك ؟!, ها ؟, جاوبيني يا أبجديتي الأولى, يا نقشاً في الحجر, ولأنني لمّا أجد إجابةً منكِ بعد, سأجيبك أنا, يا عزيزتي, إن روحين هائمتين ليستا بحاجةٍ للكتابة دائماً. ليس خطأ اعرابي, اعلم أنها روحين هائمتان, ولكنني ارفض أن تختلف روحنا عن هيامنا حتى قواعدياً. إذاً ما بيننا لا يشبه الرسائل, لا ينتمي للكلام, ما بيننا شيءٌ بين التامور و القلب, شيءٌ لا يرتبط بتاريخٍ أو جغرافية, شيءٌ تعيشين فيه, و يعيشُ فيكِ, شيءٌ كاجتياح الروح, و شخصٌ مثلي شهد اجتياح نظامٍ استبدادي لمسقط رأسه و تنظيماً متطرف لمدينته, يستطيع أن يؤكد لكِ أن اجتياح الروح يهزًّ القلب مثلهما, شوقاً لا خوفاً يا جُمانْ, شوقاً يهزُّ القلب, وكلّما مر فيه صاح “اللهم سلّم” .
نُقدِمُ في حياتنا على أشياءٍ دون قصد, نسترسل بها حتى تصبحَ من فرائضنا, كرسائلي لكِ, في الحياة التي تبدو غائمة, نبحث دائماً عن مسالك النور, عن الخلاص, كلما كاد اليأس يسكننا, باتت الحياة هي هاجسنا الأوحد, كيف من كنتِ خلاصه يا جُمان ؟! .
حسناً, وددت إخباركِ أنني أصبحت أكتب رسائلك على الورق, لم تسعفني الملاحظات الالكترونية بفرش الكلمات على كتبي, لذا قررت الاستعانة بالورق, كما علّقت لكِ عطراً على باب غرفتي, كتبت قصة امرأة غرّدت خارج الواقع, في سقف أعلى الأحلام, على جدار المنزل, منزلنا, شربت البارحة قهوتنا, كما قررت تقييد رغباتي التي تزعجكِ بسلاسل أطول من هجرك لي, فتاةٌ لم تأتي حتى الرسالة السادسة عشر لا بدّ انها خائفة, طأطأت رأسي و طرقت باب الصبر, علّه يرحم قلباً هائمُ الشوقِ فيكِ, ريثما تأتين .
ربما لو كنّا في الرقة لما احتجت لكتابة كل هذه الرسائل, ربما لما احتجت للكتابة أساساً, لن أندب حظي, بل وجدت الحل لذلك, لكِ ثلاث أغاني من الموليّة, ولي من النايل و الميمر ما يكفي لوعتي, لي من الفراتِ ما دخل من جرابلس حتى يصل الرقة, ولكِ ما لي و حتى شط العرب, لكِ عاشقٌ فراتي عاش قصصه المنثورة منذ إلقاء المغول مكتبة بغداد فيه, مروراً بطوفانه الأول و الثاني, وصولاً لعاجزٍ مثلي, كان له أن يئنّ على شطَّ الفرات, وكان لي أن أكتبه لكِ, و لي أنتِ, بحزنك و الفرح, بأعوامك الثلاثة, إذ أن مثلكِ لا يُحسب بأعمار البشر, فارتأيت حسبان الأعوام التي كتبت لكِ, مذ رسالتنا الأولى, مروراً برسائلنا التي مرّت بهجرتين .
يقولون, أن الإنسان و بطبيعته البشريّة لطالما بالغ بكلامه تِبعاً لظروفه المحيطة, ليله, نهاره, القمر و النجوم, أيامه الحزينة و السعيدة, والشوق, أؤكد لكِ أن ما سبق هو ليس إلّا حديثاً يوميّاً أحببت أن أفتحه معكِ, أودّ أن تعتادي عليه, أما الغزل, فهو حديثٌ آخر سنقوم به سويةً بعيداً عن الرسائل العمومية .

أحبكِ .