النيو ديمقراطية قد وصلت، لن نرى بعد اليوم نتائج استفتاءات رئاسية تقتصر على آل الأسد بنسبة تتجاوز دائماً 100%، ولو استغرب أحد “المغرضين” أو “الجراثيم” أو “الإرهابيين” – أو أصحاب أي لقب آخر من التي أطلقها بشار الأسد على معارضيه- سأشرح له ذلك . في الاستفتاء الأخير، اعتمدت لجان جمع الأصوات على تطبيق واتس آب لجمع الأصوات، بالإضافة لعدّة طرقٍ أخرى، حتى أن جدي المتوفى قبل الاستفتاء بعدّة أشهر أظن أنه قد “بصم بالدم” لتجديد السنوات السبع “للسيد الرئيس”، وقد نُشرت نسبة 100% مرتان، الأولى في عام 1985 والثانية عام 1999، حتى أن أحداً لم يشك في النسبة، إذ أن قتل أكثر من 40 ألف في سوريا عموماً و حماة خصوصاً بالإضافة لتهجير مثلهم -ومن الممكن ضعف ذلك العدد- جعلهم عبرة لباقي الشعب، وقد يعطي النسبة الكاملة “للقائد الخالد الأب”، إذ لا معارضين له بقوا أحياءً و من بقي لا يحق له الاستفتاء من منفاه، ليحصل “الرئيس” على لقبٍ جديد يُضاف له لا يقتصر على العمل بالديمقراطية، بل يصل إلى صانعٍ لها، علماً أن ما سبق هو حديثٌ عن الاستفتاء فقط، إذ أن برأي “القائد الخالد” ومن بعده “سيادة الرئيس” لم يرتقي الشعب بعد للانتخاب، حيث لم يكن له كـ”خالدٍ” من اسمه نصيب حتى يعيش الخلود، لعلّنا كنا سنرى انتخابات.
لا حاجة لـ”صانع الديمقراطية الجديدة” إلى كتابٍ أخضر كالقذافي ليورثها لمن بعده، ما دامت الضحيّة هي نفسها، تصبح استعارة الطرق بين الطغاة حلالاً مشروعاً لهم، لتنتقل صناعة الديمقراطية بذات الطريقة مع تبديل من يقف خلف السلاح فقط، هم صانعو الديمقراطية الجدد، المُنادين بنفس التعاليم “المقدّسة”، واضعي الدساتير المناسبة لوعينا و تفكيرنا، فهم وعد “الغرب” لنا والذي طال انتظاره.
تجاوز عدد شهداء مدينة الرقة المدنيين الألفين شهيد قضوا في قصفٍ مدفعي و جوّي منذ بدء عميلة “تحرير الرقة” التي أطلقتها قوات سوريا الديمقراطية أو المعروفة بإسم “قسد” الحليف البرّي لقوات التحالف الدولي في شمال و شرق سوريا، بينهم 130 شهيد في حارة البدو منهم عوائل بأكملها، يبدو أنهم كانوا سيصوتون بعدم شرعية “القوات المحررة” التي جاءت لتقضي على داعش، لذلك قرر “المحرّرون الجدد” القضاء عليهم، شيباً و أطفالاً، لا داعٍ لإنتظار الأطفال ليكبروا و يكونون “معارضين للديمقراطية” و يمارسون حقهم الانتخابي، فاختصروا الطريق عليهم، كل الطغاة متشابهين، مهما اختلفوا بالرايات و الأوجه ـ يتّفقون على اللا مبادئ التي يحملونها، يكذبون لو قالوا أنهم حاملي الرؤية الجديدة، يكذبون لو قالوا إنهم المحررين من الظلم، لا جديد لديهم، كلّ من يحملون له الأفكار من المحاصرين بطغيان داعش غطّاه ركام منزله أو ملابس طفله التي كان يرتديها قبل إدراك حضن الصاروخ له، ولم يستطع حضن أبيه حمايته، ديمقراطيتهم بالحديد و النار، لا أكثر .
لا وجود لديمقراطيةٍ جديدة يحملونها، و كل عمليات التجميل التي مارسوها على الديمقراطية لم تكن إلا مكياجاً لتجميلها من الخارج، وتعمية حقيقتها، ليسوا “مُخلِّصين”، بل هم القتل المتواصل الذي يلاحقنا، الديمقراطية التي يصنعونها بالدماء و الأشلاء.
الديمقراطية لديهم واحدهم، والمدني المعارض لهم يجب القضاء عليه، ليس للشعب دوراً ليؤديه في هذه المسرحية، هم أعلى مستوىً منّا، من الشعب، و لا يجب أن نشوب عالمهم الصافي .
من ديمقراطية الأسد الأب و ابنه، إلى ديمقراطية قسد، الفكرة واحدة لم تتغير، ولكن أساليب تطبيقها تجددت، لن يتركوا معارضاً أو مُخِلّاً لنسبهم المثالية، عالمنا سيبقى في ظل “القائد الأب راعي الديمقراطية و الديمقراطيين” ليسرقوا منّه كل شيءٍ جميل، بحجة مخالفة الديمقراطية، لن يتركوا لنا حتى حلماً لنحلم فيه، ولن يمنحونا الأمل، ولكن أظن أن حكمهم قد ينفعنا، لو كان طموحنا يقتصر على رغيف الخبز.
وضعوا الديمقراطية في اسمهم، بعد أن اعتادوا التشبّث بقشور الأمور، دون النظر إلى لبنتها المكوّنة، يسخفون عقولنا و ما نؤمن به، من كان كافراً في خلافه لداعش، أصبح قتيلاً في خلافه معهم، بعد استبدال سكين داعش بقذيفتهم، “هو يقف في صفِّ داعش” هذه الحجّة المكررة التي تتردد على الأسماع، هي حقيقة، ولكنها مجتزأة، هو في صفِ داعش، في سجونهم، سواء كان في السجون الفعليّة أو حبيساً للقرارات الجائرة من داعش في منزله، وسيبقى مثل كل المدنيين جزءاً من بروبوغندا أكبر منهم، بروبوغندا تقتصر على العقول الحاكمة للأرض، براياتهم السوداء، الصفراء، الحمراء، راياتهم التي تحلّ محل الفراشي، تصبغ كل رايةٍ أخرى بألوانها، أو تكسر عصا الرايات الاخرى فوق رأس حاملها، إذ لا رايات تعلو فوق رايات الديمقراطية الجديدة .
أفكر بالديمقراطية، كيف تٌختصر كقماشٍ متنوّع، كان يتّسع للعالم كلّه، وبات ينحصر على جماعةٍ و حلفائهم، لم تستطع الديمقراطية أن تتنازل يوماً لنا، للمرتبة التي تكون فيها لكل البشر، بقيت مع من يحمل السلاح، من يظن أنّه مجددها لهذا العصر، وكلّ من يقف أمام هذا السلاح هو عبدٌ لقراراته، يحتاج الناس بدايةً للحياة، ومن ثم باقي الحقوق.
مقبرة هي، ولم تكن يوماً كذلك، عشت في الرقة لخمسة أعوام، كانت ما يُطلقون عليه “أجمل سنين العمر” وعلى اختلاف مسقط رأسي ديرالزور، كان في الرقة و ريفها من التنوّع ما يفوق قدرتي على تفصيله، ولكلِ قمرٍ وجهان، منيرٌ و مظلم، أخذت الكثير من الفصائل ظلام رقتي، و وشّحت تنوعها بلونها، من السواد حتى باقي الألوان، جاهرت داعش كثيراً بكتيبتها “الكرديّة” المنضوية تحت لوائها، مقاطع مصوّرة و صور و أوراق تعريفية في شوارع الرقّة، كمجاهرة قسد بكتائبها العربيّة تماماً، لم نأتي من الجاهلية، نعرف أن عرق قاتلنا هو عرق القتل، دينه القتل، طائفته القتل، ولا انتماء غير القتل قد يسمح بإراقة كلّ هذه الدماء، لا عرق ولا ديانة تسمح بتحويل حدائقنا إلى مقابر، إلا من انتهج القتل كأسلوب حياة، من يعمل على صناعة عرشه من جماجم الناس، وكلّ تلك الجماجم، لن تكفي لصناعة كرسيٍِّ قائمٍ على ديمقراطية مغمّسة بدمائهم، سيهتزّون في قبورهم، أؤمن أنّ لكل مخلوقٍ هدفٌ لن ترتفع روحه إلى السماء حتى يحققه، ستلاحقهم أرواحنا، وإن لم نحصل على ديمقراطيتنا، سيكفينا حصول من بقي عليها .