نرفع جدارنا عالياً ، حتى بات يضاهي ناطحات السحاب ، حجب عنا أشعة الشمس ، بات الظلّ يغطي كل أرجائنا ، أكادُ أمضي ربع قرنٍ من الحياة ، وما زال الجدار يرتفع ، كلّ جيلٍ يحمل على عاتقه رصف صفٍّ جديدٍ منه ، حكايات أجدادنا والجدّات كانت أساسات ما بُنِي في أنفسنا ، هي المتكفّلة برفع منسوب الخوف ، لنسارع على إثرها و نرفع الجدار أكثر ، هكذا أصبح الجدار درع الحماية لنا من شرور العالم الخارجي ، بكلّ وحوشه و أخباره ، حتى الخرافات منها .
أجلس وحيداً مراقباً قطرات الماء المنهمرة على نافذتي ، في الشتاء تزداد الظلال قتامة ، تسكت المدينة ، ولا فائدة من حياةٍ في ظِلال الشتاء ، أصبح لنا مواسمٌ للنوم ، نقطع كلّ شتاءٍ يمرٌّ بنا بالنوم ،النوم هو الحل ، وأنا أجلس على ضوء شمعة ، يوجد كهرباءٌ في المدينة التي أعيش فيها الآن ، ولكنّ لا كهرباء داخل مدينة الجدار ، أبحث في داخلي عن حكايات جدتي ، حكاياتٌ يناهز عمرها الألف ، وربما أكثر.
ضوء الشمعة يتراقص ، كفيلٌ بإضفاء الديكور اللازم في حضرة الحكايات ، ابتعد في خيالي عن ظلال الشمعة ، واستمر في الحكايات ، حكاياتٌ تروي لنا عن عالمٍ لا جدار فيه ، أكاد أشعر أنه لا ينتمي لعالمنا ، مناضلاً لدفع الشكِّ عن كونه خرافة ، عالمٌ متنوّع ، بشرٌ من أعراقٍ و طوائف متعددة الانتماءات ، دمٌّ لا يبحث عن النقاء التام ، شمسٌ تخترق المنازل كل يوم ! كل يوم ! ، دون استثناء لديها ! ، تبدو الحكايات الآن خرافة ، يشارف نضالي على الانتهاء ، أولائك البشر يعيشون معاً ، يؤمن كلٌّ فيهم بما لا يؤمن الآخرون ! ، حتى أنهم تكلّموا لغات مختلفة ، كيف كانوا يعيشون ! .
أنا داخل الجدار مذ ولدت ، حتى أنني لم أعرف ما خلف الجدار يوماً ، لا اتخيّل إلا نادراً من ما زال هناك ، تقتصر حدود معرفتي داخل الجدار ، ما خلفه يقع بين مخاوفنا ، وراء حكايات أجدادنا ، وهو قائمٌ لحمايتنا فقط ، حمايتنا ، مثل محميّة ، من البشر !.
اعتدنا زراعة ما نأكل ، والشرب من نهرٍّ يقطع مدينتنا ، وهذا الأمر الجيد لدنيا في ادنى تقدير ، وأن ترضى بالأدنى يبقيك بعيداً عن الرغبة في الخروج ، تروي لنا أمّي أن المدينة لم تكن هكذا قديماً ، لم يكن الجميع موافقاً على الجدار ، كان هناك من المغامرين – مثلنا كما تقول أمي – لكنّ ذهابهم دون عودة أعطى شرعيّة للجدار ، عمّر الخوف من الموت في نفوس البشر ، أكد خرافات وحوش ما بعد الجدار ، حتى نهشت المغامرين لحماً و أشعلت عظامهم للتدفأة ، وما عاد منهم أحد .
أصبحت فكرة أنني من المغامرين تؤرقني كثيراً ، يقول لي أخي أن موعد الذهاب للسرير قد حان ، نواجه مشكلةً ، عفواً ، نواجه شتاءً آخر ، حان موعد السبات حتى ينقضي الشتاء ، والتأخر سيكون له عواقب لا تُحمد ، تأخرنا في النوم سيُعرضنا للإطلاع على الشتاء ، أخبره بأنني سأذهب بعد قليل ، علّه يتركني أكمل حكاياتي الموروثة ، ماذا يوجد خلف ذلك الجدار ، يكبر رأسي ، أفكاراً ، تُضيء الشمعة داخلي ، يدخل النور للقلب ، يرتفع مستوى الأدرينالين حتى ينشف حلقي .
وُلدنا داخل الجدار ، أنا و أخي و عائلتي بأكملها ، لم يكن الأمر بائساً ، كلّنا كذلك ، نتجول في طرقات مدينتنا ما نشاء ، يتراكم في داخلنا العالم ، ونعطي تفسيراً لكلّ شيء ، ذلك ما يساعدنا على صنع الأحداث و كسر روتينها ، نكبر و يكبر حدود مدينتنا ، ولا نحاول الخروج منها ، لماذا نخرج و ما وراء الجدار يقتلنا .
أُكمل روايات الجدّة ، كثيرةٌ هي القصص عن “المغامرين” ، امتطوا عنقاءً ، صاحبوا خلّاً وفي ، و أكلهم الغول لاحقاً ، الوحوش لا طعام لها سوانا ، كلّ القصص تجتمع لتمنعنا من فرصة الاستكشاف ، تقول انها صعدت على الجدار يوماً ، يحشرج صوتها حتى الذكريات ، ولا تكمل حديثها عمّا رأته ، أوصت أبي أن يدفن جثتها في ذلك المكان ، لم ترغب يوماً البقاء إلا في المكان الذي أحبّت ، هكذا أوصت.
في حيرةٍ من أمري عن سبب حشرجة صوت جدتي و سكوتها عمّا رأته ، عن إصرارها في دفنها بمكانٍ أحبّته ، ربما رأت الوحش يجتاح مدينتنا ، يبتلع الجثث كما لم يبتلعها غولاً يوماً ، يحرق مدينتنا مُهجّراً لنا إلى خارج الجدار ، يقتات على أجسادنا ، يتراءى لي بريق عينيها ، إما نوراً لشمسٍ لم تدخل إلينا يوماً ، أو ألسنة لهبٍ رأتها قبل أن يسجّلها التاريخ .
يُسجل تاريخ كل جماعةٍ أن “توحيش” الآخر يُربي الحقد في قلوب أجيالها اللاحقة ، يحمون أنفسهم بالتحضير لمحاربة تلك الوحوش التي لا تنتمي لجماعتهم ، رفع منسوب الخوف يتناسب طرداً مع رفع الجدار المحيط بنا ، ويتجمّع المنتمين لذات الجماعة حتى يحاربون الانتماء الآخر .
رغم أن والدي حذرني دوماً من الخوف ، واصفاً إيّاه بالعدو الأأول ، الخوف الذي يقضي على النور ، يحوّل ما تحت سريرك ليلاً إلى يدٍ تمتد إليكٍ لتخطفك ، يزيد عتمة زاوية غرفتك ، ويحوّل أشكال ظلال الشمعة إلى وحوشٍ مرعبة ، حتى لو كان ذلك الظل لقميصك المعلّق وسط الغرفة ، سيصبح شبحاً تخافه ، تحذيره من الخوف زاد خوفي ، أغرقني في تفاصيل الحكايات ، أصبح حبيس نفسي ، أُحيطني بجدار .
لم أعد أرى ما خلف شبّاكي جراء الأمطار ، أسمع صوت أخي جدداً ، يقول أنّه شارف على النوم ، ولن أستطيع سماعه مجدداً ، حافظت على هدوئي ، سينام الآن ، وأستطيع العودة إلى أفكاري وحيداً ، لن يعرف أنني رأيت مدينة داخل الجدار مملةً للمرّة الأولى ، بدأت أفكر بالمغامرة بجدّيّة ، لا أُريد لأولادي أن ياتوا إلى هذه المدينة ، ولن أحكي لهم عن وحوشِ ما خلف الجدار ، يتضاءل الفرق بيننا و بين المغامرين ، هم فقط كانت لديهم شجاعة الخروج و الاكتشاف .
استجمع قواي ، أحاول تذكّر كلّ الحكايات ، أريد استحضارها جميعاً ، سأكون من المغامرين ، أو أجمع ما يكفيني لزاد حلمي الممتد طيلة ما أسموه الشتاء ، في أسوأ الأحوال سأقطع شتائي بحلمٍ يقويني حتى الشتاء القادر .
الخوف الذي بنوه فينا حجراً حجر ، طول تلك الأجيال ، شيّدوا مدينتنا و الجدار ، ماذا حدث لو رفضوا بناء ذلك الجدار ، هل سيأكلونا الوحوش ؟! هو الاحتمال الأول الذي شغلني ، أو ربما كان الوحوش سيبقون في مدينتنا و يبنون جداراً منّا ، ربما الوحوش سيطروا على مدينتنا و بلادنا ! ، الخوض في التفاصيل أصابني بدوار ، يبدو أنني سأنام هذا الشتاء ، المدينة إجمالاً أصبح هدوئها مخيف ، سينام الجميع لأشهر .
حان موعد نوم الجميع ، توقف أخي عن النداء ، أصبح السرير دافئاً ، عيني اعتادت على الإنارة الخفيفة ، تشارف حكايات جدتي على الانتهاء ، أصابني مرض التفكير والمغامرة ، تكاد الشمعة تنطفئ ، أفكر بجدتي التي دُفنت في المكان الذي أحبّت ، أفكر بأبي الذي لم يودع جسد أمّه ، يفصل بينهم جدار ، ليس ذاك الذي يحيط بنّا ، أو ربّما هو نفسه.
اختفى الصوت ، لا بشر يشخرون في هذه المدينة ، لم يعد هنالك صوتٌ للمطر ، رغم أنّه لم يتوقف عن الهطول ، قمت بتفويت موعدي الأخير ، ربما الموعد نام كما الجميع ، لِمَ كُتبت علينا هذه الحياة ! ، هل كنّا نستحق الولادة داخل الجدار ! ، تنطفئ الشمعة ، خيال جدتي يتراءى من الدخان ، لا صوت للمطر ، ما زلت داخل الجدار ، ماذا خلف الجدار ، سريري أصبح دافئاً ، ، جدتي نائمةٌ في المكان الذي احبّت ولن تستيقظ الشتاء القادم ، الشمعة ، الجدار ، جدتي ، أبي ، نحن ، الشتاء ، سباتنا في المشاكل ، والشمس ساطعةٌ في مكانٍ من هذا العالم ، ونحن غارقون في سباتنا العميق ، خلف الجدار الآن .