كانت بدايتي مع تعزيز دور المرأة هي الأجمل – بالنسبة لي – عندما بدأت بتحضير بعض اللافتات وأعلام الثورة كي اعطيها لصديقتي قبل 7 سنوات ، كانت النيّة حينها خروج مظاهرةٍ لطالبات الثانوية في مدينة البوكمال ، و بمجتمعٍ محلّي تداول لعدّة أشهر سيرة جارتنا التي قادت السيّارة وهي أول امرأة تقود سيّارة في المنطقة ، كان هذا الأمر من الكبائر ، “ماذا سيحدث لو اعتقلوا إحداهنّ؟!” ، “كيف ستكون ردّة فعل الأهل لو تعرضت أيّ فتاة للاعتقال؟!” والكثير من الأسئلة التي تداولناها على نطاقٍ ضيّق ، ولكنها لم تكن لتوقفنا عمّا نفعل ، أخذت صديقتي ما استطعت إعداده مع مجموعةٍ من الشباب و خرجت المظاهرة ، على صغرها كانت هي الأكبر ، فسحةٌ سماويّة على الأرض ، هي ثورةٌ تكسر القيد ، قيد المجتمع والعادات والتقاليد قبل قيد الحكومة الظالمة المفروض علينا ، ومثل كلّ أفراحنا منذ عام 2011 ، دامت هذه الفرحة قليلاً فقط ، حتى حان وقت بدايتي الجديدة.
بدايتي الجديدة كانت مع المساواة ، إذ حرص النظام على فرضها ولو بالقوّة ، حتى أنّ هذه البداية كان لها رونقها المختلف عن سابقتها ، حيث قرر النظام أن يفرض المساواة في فرع الأمن العسكري ، اعتقلني مع والدي و ابنة الجيران التي كانت إحدى المتظاهرات و والدها ، بأس المساواة وبأس البدايات ، بدأ الاستقبال في مكتب العقيد ، “شو ؟! شايف ما تربيت من المرّة الماضية؟!” يُجيب أبي “أخالفك الرأي ، شايفو تربّى ، بس التربية الصحيحة مو التربية يلي بدكمياها” ، ومثل كل طاغية يهتز عرشه ببضع كلمات ، بدأ العقيد بالصراخ ، وارتفع صوته أكثر عند ابتسامتي ، يبدو أنّها هربت منه عند اعتقاله لكل ابتسامات المدينة ، وآخرها ابتسامة أمّي وأخي محمد اللذان تركتهما على الباب مُصفرّين ، بعد أخذٍ و رد ، قرر العقيد إنزالي إلى الزنزانة ، وإخلاء سبيل الفتاة ، رضيت بنصيبي هذا من المساواة ، ولو كان الأمر لي لفضّلت اعتقالي بدلاً من هذه المساواة.
لاحقاً علمت أنّ نساءً في حياتي لأدوارهم أهمّ من الرجال ، حيث كان لأخذ أمّي الموبايل واللاب توب و صراخها على العساكر أهميةً لا تُقدّر بثمن ، منعتهم من الدخول إلى غرفتي وتفتيشها ، ربما لولاها لما كتبت هذه الكلمات اليوم ، استمرت كمعلمةً لي ، منذ دخلت المدرسة حتى ذلك الحين ، ولا شكّ عندي انّ مئات الأمهات فعلوا ذات الشيء ، أنقذوا أبنائهم من سوطٍ جلّادٍ يُضاف إلى أقرانه ، أسقطوا بأفعالهم تهمةً من التي تُصنّف في أيّ بلدْ على أنّها حرّيات أساسيّة.
خرجت من السجن واتجهت إلى بيت جدّي ، كانت جدّتي مطرقةً في صدر جدارِ المفاهيم المغلوطة ، إذ أنّها حضّرت سلاحاً في المنزل فيما لو اقتحمه “الجيش” مجدداً ، وحاكت لنا من أعلام الثورة لفحاتٍ ما يقينا برد الشتاء وظلام الطواغيت ، كنت استغرب من كثرتها ، إلّا أنني أيقنت أهميتها عند وجودها على مدار 7 سنواتٍ لاحقة.
دارت الأيام ، ومثل كلّ إنسانٍ له من الصواب ما عليه من الأخطاء ، أخطأت بتعبيرٍ عند استخدامي لمصطلح تمييزٍ جنسي ، وعلى الرغم من توضيحي واعتذاري إلى أنّه لم يكون مصطلح تمييزٍ جنسي لمجرّد أنّه كذلك ، بل تعبير غضبٍ واستياء بالغ الشدّة لاستهتارٍ بدماء من فقدناهم في أرض اغتراب ، لفعلٍ على “جارة ناجي العجوز” التي آوتنا في نزوحنا الثالث واغترابنا الأول ، كما أنّه لم يكن موجهاً لجنسٍ بحدِّ ذاته ، إذ لو كان “ذكراً” لاستحق نفس الرد ، ولكن شاءت الظروف أن أتعلم من “كيسي” كما تقول جدّتي ، و ربما كانت خيراً في نقطةٍ ما ، حيث نحتاج لمراجعة أنفسنا حتى ولو بالقوّة.
كان لقرارٍ سابقٍ لي بكتابة رسائل لمن أحب ، لـ“جُمان” ، هذه العادة التي بدأت منذ أربعة أعوامٍ واستمرت حتى هذا اليوم ، رسائلٌ بلغ عددها عشرون ، حيث رأيت أنّ امرأةً ستشاركني قلبي والروح ، لا بدّ من ولادة الغزل فيها قبل ولادة حبّنا بأعوام ، ولا جزاء يقابل جنس عملها ولو بدأت كتابة الرسائل منذ تعلّمي أولى كلماتي التي خططتها في الخامسة من عمري ، كما أنني بدأت تعلم الطبخ قبل الرسائل بمدّة ، أحببت أن أطمئنها في موعدنا الأول أن المطبخ سيكون حيّزاً مشتركاً لنا ، في الدرجة الأولى لزيادة ما سنفعله معاً شيئاً ، وفي الدرجة الثانية لتكون بجانبي ، كل الرجال العظماء بجانبهم امرأة ، لا امرأة خلف رجلٍ عظيم مهام بلغت عظمته.
لا أكتب هذه الكلمات لأحد ، هي لي ، ومثل كلّ الرسائل التي وجهتها سابقاً أنشرها لإنني تعلمت حفظ دروسي بقراءتها بصوتٍ عالٍ ، هو درسٌ لي لأحفظه.
أما نحن ، منشغلون نحن بقتل بعضنا، وتكفير بعضنا، وذبح بعضنا لا نلتفت إلى ما يدور حولنا من المخطط الكبير، يوم تعلن الحرب الثالثة سنكون منتهين، متشرذمين، ستأكلنا الحرب من قبل أن تبدأ، أو كم هو مؤسفٌ أن نكون مجرد قطع الحطب اليابس التي تطهى عليها الحرب لحدّ الآن على نارٍ هادئة لا تأكل سوى ما أشعل تحتها.
بأس الدمى نحن
إعجابLiked by 1 person