يعتاد الناس على الكثير من الأشياء ، منها إرادي مثل بعض أفعالهم اليوميّة ، ومنها لا إرادي مثل المشي وغيره ، أما نحن ، لنا اعتيادنا الخاص.
قَسَمْ
لطالما اعتدنا على القَسَمِ أو كما نسميه “الحلفان” في منطقتنا بعدّة أساليب ، وأكثر الأساليب استخداماً لدينا كان بواو القسم مع كلمة “حق” ، والتي كانت أشبه بإرثٍ شعبي للمنطقة الممتدة على طول حوض الفرات من جرابلس إلى شط العرب ، حتى أن بعض الشعراء العراقيين كانوا يستخدمونها بشكلٍ خاص في الغزل سواء بالمحبوبة أو الأم مثل أغاني وحيدة خليل وسعدي البغدادي والتي يقولون فيها “و حق عيناچ يمّا” إذ يقسمون بأغلى ما لديهم ، عينا والدتهما.
ازداد سماعي لهذه الطريقة من القسم عند لجوء أهالينا من العراقيين إبان الغزو الأمريكي على العراق ، ولكن ما لفت نظري أن معظمهم أصبح يستخدم شيئاً آخر للقسم ، “التراب” ولكن ليس أي تراب ، تراب العراق حصراً ، حيث أصبحت الأحاديث – ونحن نُقسِم كثيراً في أحاديثنا – لا تخلو من “وحق تراب العراق” ، ومهما كان الحديث حتى لو كان عابراً ، لا بد من حشرجة الحزن المرافقة لهذا القسم ، وكثيراً ما كان هذا القسم سبباً لإنهاء الحديث مهما بلغت أهميته ، والتي بررها أحد الأقرباء بقوله “العراق و راح ، ما ضل حديث يسوى”.
حكاية
اعتاد جدي أن يحكي لنا عن العراق ، وهو الذي هجره قادماً إلى سوريا في منتصف القرن الماضي ، وأُفضّل أن أسمّيها “نصف هجرة” ، إذ أنّه لم يسعه إكمال طريقه و قرّر التوقف في مدينة البوكمال ، النقطة الحدوديّة السوريّة – العراقيّة ، علماً أن البوكمال فيها من أطباع و عادات العراق أكثر مما تملك من سوريا ، لتكون رحلته “نصف هجرة” بين وطنين ، و نرث منه اللجوء حتى قبل أن نمتلكه صفةً.
ومثل الكثير من الأطفال ، كان جدي وحكاياته مدرستي الأولى ، ومثل الكثير من الطلّاب أحاول بدأت محاولات استكشاف طبع مُعلمي ، كنت استغرب كثيراً بكاء جدي عند سماعه عن أحوال أقربائنا في العراق ، حتى قبل الحرب ، وكانوا بأحسن حال ، ولو جاءت مكالمة من هناك ، لم يكن البكاء يكفيه ، إذ لا بد من نشيجٍ يخرجه قبل اختناق صدره من الحزن ، لم أفهم معنى هذا الحزن طيلة عشرون عاماً ، اليوم بتّ أفهم حال جدي ، ولكن لم أستطع إخباره بأنني اعتذر عن استغرابي ، جدي مات ، زال استغرابي ، يسكنني الخوف الآن ، أخاف أن أرث منه صفة الموت بعيداً عن الوطن.
ثورة
اعتدت على مسح ذاكرتي شيئاً فشيء ، السياسيّة وقسمٌ من الاجتماعيّة على الأقل ، عِشتُ ما يُسمى بالذاكرة الجمعيّة قبل أن أتعلمه كمصطلح ، بدأ الأمر عندما شعرت بأحاسيس المئات يهتفون “حريّة” ، أحسست بكلٍ قلبٍ وحنجرة ، بخطواتِ كل متظاهرٍ دكَّ الأرض بقدميه ليزلزل عرش الطغيان.
مرّت السنوات و تطوّر الأمر ، مُحيت ذاكرتي عمّا قبل 2011 ، فرحت مع ملايين خرجوا في كل سوريا ، وشاطرتهم شجن عمرٍ بأكمله ، رقصت على أفراحٍ ليست لي ، بكيت ليالٍ على شهداء لم أعرفهم ، حزنت على مهجرٍ لم التق به ، وحقدت كثيراً على أموات ، شبعوا موتاً وهم يمشون فوق الأرض ، على ذات الأرض التي نمشي عليها ، ولكنهم يستظلون بكرسي الطاغية.
أحدّق أحياناً في المرآة ، هذا الوجه البائس لا يمت بصلةٍ إلى ثورةٍ بتلك العَظَمة .
يسألني صديقي “ولو عاد الزمن هل ستخرجون؟” ، اقتبس إجابتي من مظفر النواب وهو يقول “يا اللي شوفك يبعث الماي الزلال بعودي وأحيا وأنا ميّتة ، يا عمد بيتي وقمر ليلي وربيع الشيب والعمر الجنيته” ولا تختلف إجابتي إلّا أنّ مظفر يتحدث بلسان أمٍ لابنها ، وأنا أتحدث بلساني كابنٍ لأمّه الثورة ، عمد بيتي وقمر ليلي و ربيع الشيب والعمر الجنيته ، ماي الزلالي البِعَثْ عودي وأحيياني وروحي ميتة.
أحلام
اعتدت على تكرار أحلامي ، كان الظلام دامساً ، لا يسعُ صدري أكثرَ من شهيق ، هو ذاته أزفره وأعيد شهقه ، ميّزت ما يجري من الأصوات ، أنظر والرعب يخفق في قلبي أسرع من النبضات ، روحي المُدماة لا هو ، أشعرُ بألمٍ يرافقني حتى بعد الاستيقاظ من النوم ، أسمع في كل أحلامي أصوات القصف ، أسمع في كل أحلامي أصوات من فارقوني ، رسائلهم الأخيرة التي لم أسمعها منهم.
في أحلامي هذه يختلف الأبطال فقط ، أحلم بما جرى كثيراً ، مرةً كان ناجي ، مرةً حمادة ، مرةً صالح ، وهكذا.
وكما يقولون لكلِّ شيءٍ ثمن ، وترف رؤيتهم أدفع ثمنه في كلّ حلم ، لا مشكلة لو دفعت ضعف الثمن ولو كان واقعاً ، ولكنني أريد حلماً معهم دون دماء ، حلمٌ لا أُقتَلُ فيه.
جامع وَرق
اعتدت جمع النصوص التي تُكتب عن الثورة ، حتى ما لا يعجبني منها ، أو من كتبها شخصٌ اختلفت معه في الرأي ذات مرّة ، أجمعها و أرتبها مذ قرأت مرةً “لا تُضيّع نصّاً سُفكت من أجله قطرة دم” ، فكيف لو كان نَصّاً يعبق برائحة الغوطة؟
بداية
اعتدنا الآن على الحروب ، ولكن ، قبل بضعة سنواتٍ تكاد تقارب العشرة ، كانت طبول الحرب تُقرع ، وكانت حرباً بعدها ، طبولٌ تستنهض الأبطال الذين عرفناهم لاحقاً ، وتُثير شهوة جامعي الرصاص وبائعي الموت ، الجشعين تُجّار القبور ، باني القصور على عظامنا.
لم أكن أسمع قرع الطبول حينها ، كانت دقّات القلوب أعلى ، صخب الحب الذي عمَّ فجأةً ، أحلامٌ بُنيت و مخططات ، حتى أنني أذكر حديث صديقي الذي بلغ من النشوة ما أوصله إلى حكاية كيف سيغدو هناك بنكاً كبيراً في حيّينا ليأتي سارقين إليه ويسرقونهم عبر الفرات ، كما فعلوا في البندقيّة في فلمٍ قد شاهده ذات مرّة.
لم نكن نتحدث بلغة السلاح ، لم نكن نُجيد إلى “الزغاريد” ، حتى أنّ بنادقنا لم تعتد إطلاق الرصاص إلّا في الأعراس ، و رغم كلِّ ما جرى لنا ، افتخر بأننا لم نتعلم لغة الأرقام ، ما زالت جارتنا تفتخر بابنها الشهيد وتروي للناس قصته ، وما زالت كلُّ مدينةٍ تفتخر بأولادها ، حتى أنّني أعرف من قد يستغرق ساعاتٍ في الحديث لو سألته “ما أعداد الشهداء في مدينتك؟” ، سيعدّهم لكّ قصًةً قصًة.
يُقسِمُ جدّي قائلاً “وحق تراب العراق” وهو الذي لم يكذب أبداً ، أنَّ الفرات كان كَدِراً لأيّام ، وأن مقولة “باچر يصفى المي ونشرب” – والتي تعنى أن الماء سيصفى غداً ونستطيع الشرب منه- جاءت من هذا الحدث ، ولولا أنّ جدي من قالها لما صدّقته كيف كان الفرات كَدِراً ونحن نُقْسِمُ بصفاءه.
بعد مضي أشهرٍ على الثورة ، أصبحت إحدى الهتافات ذات الشعبيّة هي “باچر يصفى المي ونشرب” ، وإلى يومٍ يصفى ماء ثورتنا ، سنضلُّ نُشْهِد التراب على ما حدث ، “وحق تراب سوريّة”.
مادتي لموقع صوت و صورة