يُقال ، ورغم كرهي لهذه الكلمة والتي باتت تؤرّق النص الذي يليها لما تحمله من تشكيك وخصوصاً في السنوات الاخيرة ، وما تسببه من زعزعة في القصص التي نتعلّق فيها ، قصص الجدّات خصوصاً ، ولكنني اضطر لاستخدامها.
يُقال أن سركون بولص قد خرج وحيداً ، مشياً على الأقدام ، من شمال العراق وصولاً إلى بيروت ، هارباً ، طريداً ، شريدا ، مما قد هرب منه الملايين ، منذ عهد المغول ، حتى عهد المغول ، مع اختلاف وجوه مغول العصور ، واحتفاظهم بهمجيتهم ، مشياً على الأقدام باحثاً عن سبيله في العلم ، سركون الذي أضاف للنصوص العربية الكثير بترجماته ، والتي استفرد بكثيرٍ منها بتلك الإضافات.
لم يسكن سركون في بيروت طويلاً ، سافر إلى أمريكا و عدّة بلدانٍ أخرى حتى استقر في ألمانيا ، سركون الذي صدر له أكثر من عشرة ترجمات ومؤلفات ، كان من نصيب مطابع “بغداده” اثنان ، اثنان بعد وفاته ، اثنان حملت أثره لتلك الديار التي قال عنها “بغدادُ سُنبُلةٌ تشبّثَ بها الجراد” ، اثنان كانتا بديلاً لجسده الذي دُفِنَ بعيداً
لم يعد سركون إلى العراق ، لربما عاد ، الروح وما تهوى ولو كانت روحه على هواها ، أُقْسِمُ أنها تجوب سماء العراق مذ خرجت من جسده حتى هذه اللحظة – ولربما من قبل -.
إحدى قصائد سركون ، لا أسمعها ، بل تجتاحني حرفياً ، تتلمس جسدي النحيل ، نحيلُ بين كفّي القصيدة ، تجتاحني اليوم بالذات ، أقف في برلين ، كما وقف ، كما عاش سنوات غٌربته ، أو كما مات فوق الأرض في سنوات غربته ، حتى دُفُِن تحت هذه الأرض ، هنا في برلين.
تُرهبني تجربة سركون ، أتى لبرلين ، وعلى عكس البشر ، لم يستأجر شقّةً للعيش ، بل أستأجر شقّةً للموت ، قرر سركون أن يعيش ما بقي له من العمر منتظراً تحقق نبوءة التقرير الطبي الذي أخبره بمرض السرطان ، أستأجر الشقّة هنا ، خرج إلى الشوارع هنا ، جابها باحثاً عن نفسه هنا ، محتضناً ما تيسّر له من أنفاسٍ حملها صدره من بغداد ، إلى هنا.
كالأطفال ، أبكي سركون اليوم ، العام الحادي عشر على وفاته ، ينقطع النفس في صدري ، صوتٌ متشققُ كهذه الأرض الهالكة ، كلٌّ أرضٍ ليست أرضنا هالكة ، مُهلكة ، أقرأ قصيدته من أقصى جنوب القلب ، إلى شمال سماوات الله ، ولا وطن أعوذ به من هذه الغربة ، وأعود لأقرأ.
“جئت إليك من هناك ، نهايةُ العام
عام النهايات
الطقسُ والغربان،
ضِِيقٌ في نفسي
من كثرة التدخين ، علّةٌ ما
(وحشةٌ
قلقٌ
ألَمٌ دفين)
أطاحتْ بي لأطوفَ في أنحاء البلدة المقفرة
و أقطعَ حول تلك الزاوية بالذات
حيثُ لاقاني وجهاً لوجه
قبلَ هبوط الليل:
صديقي
القَصّاصُ هوَ بعينهِ
لكنّ شيئاً أفرغَ عينيه من الضياء
صديقي القديمُ الفَكِهُ
هوَ بذاتهِ
لكنّ شيئاً قَلَبَ قَسَماتِهِ
من الداخل
الحواجبُ بيضاء
سوداءُ هي الأسنان
إذا ابتسم (لا فرَحاً ) بدا كأنّهُ يبكي
ما وراءَ الحزن
كما في صورة غير مُحَمَّضة
بأقلّ نفخةٍ تنهار . . .
لاقاني وكنّا خارجَين من عاصفةٍ
بدأْت منذُ الأمس
تَجلدُ الجدران بلافتات المطاعم والحوانيت
وتجعلُ أسلاكَ التلغراف
تُوَلولُ حقاً في تلك الساحة الخالية
صرختُ : يا يوسف!
ماذا حدثَ لوجهكَ يا يوسف؟
ماذا فعلوا بعينيكَ يا يوسف
ماذا فعلوا بعينيك وحَقَّ الله؟
قال: لا تسألني ، أرجوك.
قال: إنّهُ الدمار.
قال جئتُ إليكَ من هناك.
قال : لا أنا . لا . لست أنا .
لا أنت.
لا ، لستَ أنت.
هُم،
وآلهة الزَقّوم.
هُم ، وصاحبُ الموت الواقفُ في الباب:
اللاجئونَ على الطُرُقات
الأطفال في التوابيت
النساءُ يَندُبنَ في الساحات
أهْلُكَ بخير
يُسَلّمونَ عليك من المقابر
بغدادُ سُنبُلةٌ تشبّثَ بها الجراد
جئت إليكَ من هُناك
إنّهُ الدَمار
قالَ لي
وسارَ مُبتعداً ، و اختفى
في كلّ مكان.”