كان والدي مديراً لمشفى البوكمال الوطني ، على الرغم من أنّه طبيب أسنان ، وهذا ما أغاض الكثير من زملاء المهنة ، ولكنه أثبت يوماً بعد يوم أنّه أهلاً لهذه الثقة ، كنت استغرب أحياناً قدوم بعض الأطباء إليه ليعالج أسنانهم ، علماً أنني أراه يُعالج أسنانه بنفسه ، ورغم كل الصعوبة في ذلك! طبيبٌ يُعالج نفسه! ، بعد كل ما سبق ، كان أبي يَحِيرُ حرفياً بنا عندما نمرض ، بدأت ألاحظ ذلك عليه عندما كانت يده التي يوصفها المرضى بالخفيفة أثناء قلع السِنْ ، مهما كان ذلك السِن وعدد جذوره و وضعه ، ولكنّه تلبّك و أشاح بناظريه و هو يتصبب عرقاً أثناء محاولته إزالة سنٍّ لبنيّة لو تركها لسقطت وحدها من منظره! ، بعدها أصبح يرسلني إلى أطباء آخرين ، كان من الممكن أن يأتيه ذلك بصيتٍ سيّء! ما “هذا النجّار ذو الباب المخلوع” ، لم يأبه بذلك ، كان همّه الأول والأخير ألّا يجرحنا ، حتى لو كان الامر لسببٍ طبّي ، في السنوات الأخيرة من عمر جدي ، لم يكن أبي يستطيع إعطاؤه حبوباً حقيقيّة بسبب صحتّه ولعدم جدواها بعد وضعه الصحي الذي وصل إليه ، كانوا بعض أفراد العائلة يضحكون -بحُسنِ نيّةٍ – عليه ، يأخذ حبوباً منها حلويات تشبه حبوب الدواء ، يظنّ أنّها حبوب التهاب ، يأخذها من يدي أبي وهو يدعو له ويؤكد تحسّن صحته ، لا ألومهم ، لم يأخذوا حبوباً من يدي أبي و يجربون غيرها بعد ذلك ، لا قيمة للحبوب مهما كانت تركيبتها الدوائية وهي لم تأتي من بين يَدي أبي ، الشفاء في أبي لا في الدواء ، لا شفاء في هذه البلاد الباردة ، لا تستطيع يدي أبي أن تمتد لتصل لي ، وأيقن من تفاقم حالتي الصحيّة رغم كل المشافي والعيادات التي حفظت أرضيّتها بلاطةً بلاطة ، لا أقوى على رفع عيني في وجه طبيبٍ ولا أرى أبي.

أمي امرأة اعتادت النوم باكراً ، حتى في أيام العُطَل ، لم تستطع في معظم الأحيان حتى مشاهدة نشرة أخبار العاشرة ، تستيقظ قبل الفجر ، تتأكد منّا كل يومٍ ولأكثر من عشرين عاماً – هذه الأعوام التي استطعت أن أكون بها بجانبها – تتفقدنا بلهفة أمٍّ تبحث عن أولادها في السوق ، تخافُ ألّا يميّزون عبائتها في ظل تشابه ملابس النساء في منطقتنا ، يصفها العراقيين بقولهم “لهفة الشاطي بشوفة شراع” ، جال في خاطرها حينها عدّة مرّات أن أقول لها نحن نائمون يا أمي ، لن يأتي الوحش ليأكلنا ، حسناً يا أمي ، أكلنا الوحش ، و ها نحن نُلاك كلّ يوم.

أمي امرأةُ افتخر بقوتها ، أتذكر يوم كانت النسوة فاغري الأفواه وهم ينظرون إليها تشطف المنزل بعد أن جهّزت وليمة تكفي لنا ، ولأهل أبي وأهلها في الصباحيّة التي ولدت فيها أخي الصغير ، كانوا يتهامسون كيف تتحرك ، بعد حديثهم الطويل عن فلانة التي قامت بعد شهر و فلانة التي قامت بعد أسبوعين ، لم يبقى لديهم أي كلام ، أمّا أمّي ، المرأة القوية ، كانت فراشة يحترق جناحاها على مرضنا ، لم ترتفع حرارتي يوماً وفقت ليلاً إلى و وجدتها تحدو فوق رأسي “الله ياخذ من عمري و يعطيك ، ريت المرض لقلبي ولا بيك” ، عزيزتي أمي ، لديهم هنا أحزمةٌ وكماداتٌ طبيةٌ جاهزة ، يخيطونها من أجود أنواع القماش و يضيفون المواد الطبيّة ، لكنّها لم تلمس يدي أمي ، الشفاء في أمي لا في الدواء ، لا شفاء في هذه البلاد الباردة ، لا تستطيع يدي أمي أن تمتد لتصل لي ، وأيقن أن تفاقم حالتي الصحيّة رغم كل هذه الكمّادات التي أصبحت أحفظ درزتها قطبةً قطبة ، لا أقوى على فتح عيني وأنا لا أرى صحن كمادات أمي على الأرض ولا أرى أمي.

جاد لي أبي وأمي بثلاثة إخوة ، لازلت أتذكّر خوفي عندما أخبرنا أستاذ مادة الإسلاميّة أننا في يوم القيامة لن يعرف أحدنا الآخر ، كيف أكون في دُنياً لا سند لي فيها! كيف أعيش ولا أعرف أننّي لو كُسرت أسند نفسي على محمد وأغيد وأرشد.

أما الزمان ، جاد لنا بمروة ، زوجة أخي ، أو للدقّة ، أختي التي لم أحظى بها من والداي.

محمد ، وزوجته ، هم منزل الأجداد لنا ، اجتماعنا على الغداء ، خروجنا للتنفيه عن أنفسنا ، التنفيه عن أنفسنا بذاته هم! ، يحملون من الحنان ما لم أراه إلا في وجه أمّي ، أما أغيد ، والذي يحاول قدر الإمكان عدم إظهار حنانه للعلن ، فهو ذو الشخصيّة القوية التي يهابها الجميع ، يتألّم منذ عدّة أشهر ، نَسي ألمه وهو يتفقدني كل برهةٍ ليتأكد ليلاً ونهاراً أننّي بخير ، أعزائي أبي و أمي ، هذه البلاد باردة ، يعاني أهاليها من نقص فيتامين دي ، يُعوضون عن نور الشمس باخذه على شكل حبوبٍ دوائيّة ، أما أنا ، تُشرق شمس أخوتي علي ، يغنوني عن كلِّ الفيتامينات المعروفة وغير المعروفة ، تمتد أيديهم لتصل لي ، أيقن أنّ حالتي الصحيّة ستتحسن ، ولو شفي الجسد ، ماذا عن جرح الروح؟ ، لا تمتد يدي أبي وأمي لتشفي هذه الروح ، روحُ عليلة لم تعد تطيق الفُراق.