عزيزي جدي،

يقول العراقيّون – الذين تنتمي إليهم رغم هجرانك لهم مذ كنت شاباً ولكن القلوب لا تحيد – أن فلاناً انتهى خبزه من هذه الدنيا ، يقصدون أنّه مات ، أمّا أنّا الذي لم ينتابني الشكُّ يوماً بكلامٍ عراقي ، واعتبره نبوءة ، بات الشكُّ يسكنني ، رَحَلتَ منذ عدّة أعوام ، إلّا أن خبزك لم ينتهِ بعد ، ما زال خبزك فينا يا جدّي.

أتشجّع الآن ، بعد مرور الذكرى الرابعة على وفاتك ، أكتب لكَ للمرّة الأولى ، المرّة الأولى في حياتك والممات ، رَحَلْت بصمت ، كما عِشْت ، لم تشتكِ طيلة حياتك ، حتى أنّ بكاءك كان يقتصر على لحظات الحنين ، لأهلك الذين غِبْتَ عنهم ، لأهلك الذين غُيّبوا عنك ، ورغم أنّه لم يكن رحيلاً مفاجئاً ، وقد قمت بواجبك التمهيدي – مُجبراً – من مرضٍ واحتضار ، ولكن غيابك كان أصعب ممّا كُنتُ أتخيّل ، يقول والدي أنّك رحلت بصمت ، يذكر الأمراض التي أنهكتك ، يذكرونها سبباً لوفاتك ، لم تَقدِر الأمراض يوماً على إجبارك على الرحيل يا جدّي ، نَسوا أنّك من صبرت أربعة أيامٍ على انفجار الزائدة الدوديّة وتقول “مجرّد مغص ، كاس بابونج ويروح الوجع” ، كنت قد تجاوزت اليوبيل الماسي في غُربتك ، يخافون من ذكر هذا السبب ، أظنّه الحقيقي ، ويخافونه لأننا بدأنا بعدّ السنين ، اليوم أصبحنا في السنة الخامسة ، لاجئون ، كما تركك العراق وحيداً ، متروكون نحن يا جدّي ، ولكنّني رغم عدم التزامي الديني ، لا أنسى أن أصلّي لك ، لكل غُرباء الديار مثلنا ، لكل غُرباء القبور مثلك.

بدايةً أنا كَبرتُ يا جدّي ، وأظنًّ أنّي كَبرت أكثر مما أحتاج على أيّة حال ، حتى أصبحت أخاف من أن أكبر أكثر ، ربّما لن تصدقني ، لم تصدّق يوماً أنّني كَبرت ، كنت دائماً تَصرُّ على أنّني صغير العائلة ، حتى سؤالك الاستنكاري لم يتغيّر في كلِّ مرّة كنت تعرف فيها أنّني مُسافر وحيداً ، ولذلك لن أدخل معك بنقاشٍ في مُسلّمَات الأمور ، دعني أتحدث لك عن العائلة.

ما زال أبّي كما عهدته ، “نخلتنا” ، ربما تبتسم الآن ، أنت الذي أحببت النخل كما تُحب أولادك ، أولادك الذين أحببتهم أكثر من نفسك ، ووالدي الذي أحببته أكثر من كلِّ ما سبق ، حتى حين لم تكن تُعبّر عن ذلك في الكلام ، حصّته من التمرات التي كنت تحملها في جيبك من البستان حتى آخر أيام عملك كانت كافيّة لتظهر تميّزه عن كل العائلة ، و عودة لأبي ، نعم ما زال نخلتنا ، وارفُ الظلّ فوقنا يقينا شمساً ومطراً ، ثابت الجذور اختار مدينةً تركيّة على الحدود السوريّة ، تشبه في موقعها مدينةً اخترتها أنت في سوريّة مهاجراً من العراق ، حنوناً يُلقي علينا بخير تمره حتى لو لم نطلب ، ألَم أخبرك أنّ خبزك ما زال موجوداً يا جدّي؟!.

أمّي ، أكثر شخصيةٍ تشبهك ، كلاكما ترك أهلاً و وطناً لأجل شريك حياته ، أمّي ما تزال تظنّنا أطفال ، كما تفعل أنت ، وما تزال تملك نظرتها الخاصة ، تلك التي لا تهتم بما نتحدث ، تحبذ النظر إلى وجوهنا فقط ، وكأنّ النظر إلينا يريحها ، كلُّ ما تريده أن ترى ابتسامة عابرة في وجوهنا كلّما انتبهنا إليها ، حتى أنّها شردت أكثر من المعتاد مرّة وقالت بغير إرادة “معقول عندي كل هالحظ لحتى أكون أمكم” ، أخبرت الناس سابقاً على أنّ أمي تقتات على ضحكاتنا ، ولكن ، أظنّ أنّي ورثت منك خجلي في التعبير عن الحبِّ بكلماتٍ مباشرة في وجه من أحب ، أتلعثم مطولاً ، أتجّه إلى الكتابة لأخبرها ذلك ، ولكنّني أحبها يا جدي ، كما أحببت أنت العراق يوماً ، أشتاق لها ، مثلما كنت تشتاق للعراق تماماً ، مثلما كنت تبكي عندما يرنّ الهاتف ، قبل أن نعرف أن أحد الأقارب يتصل من هناك كان قلبك يدق ليخبرك بذلك ، قلبي يدق لأمّي كما العراق يا جدّي ، كما العراق .

أما محمد و عائلته ، محمد ورث اسمك والاسم الذي كنت تكنّى به ، هو محمدٌ وأبو محمود والكثير من الصفات ، محمد وعائلته اكتشفوا كيف يُصبحون مثلك ، كيف يصبحون منزل الجد ، كيف يصيبه الرعب لو أصابنا أي مكروه ، حتى لو كانت نزلة برد ، اكتشفوا كيف تصبح قلوبهم صغيرةً وهي تنكمش ألماً وسهراً علينا ، كيف يهجرون طاولة الطعام لو لم نجتمع كلّنا ، كيف تُصبح فروض الصلاة الخمسة ، ستّة ، فرضٌ سادسٌ هو عبادة الله بجمع العائلة ، تعلم محمد وعائلته كيف يُصبحون لنا مأوىً ، وأنت تعرف محمد هو الحنون الذي اعتاد أن يكون كما تصفه أمّي “حمّال الأسيَّة” منذ صغره ، أصبحت عائلته الآن “حمّالٌ وحمّالةٌ للأسيّة و ثلاثة اقتباسات من الفرح” ، ولأثبت لكَ أكثر أنّه أصبح “جدّنا الصغير” ، محمد كبّر في أّذُن تالين و محمود ، أليس هذا ما يفعله الأجداد؟.

أغيد ، على حاله ، هو الوحيد القادر على جعل ليالي الجنوب الألماني الباردة مثّل ليلة من آب على سطح منزلنا ، وصدقني عندما أقول ذلك أنا لا أقصد برداً مثل الذي تعرفه في البوكمال ، البرد هنا ينفذ إلى العظام ، البرد هنا يختلج القلوب ، أغيد دفئٌ للقلب يا جدي.

انتقالاً لي ، أصبحتُ غريباً كما كُنت أنت ، أسير في شوارعٍ كلما حفظتها قدماي وأصبحت أحفظ طريق العودة إلى المنزل وأنا شارد ، كلما ارتعدت فرائصي ، أعود إلى لغةِ الأم مئة مرّة قبل أن أنطق جملة واحدة يُمكن أن تُعبر عمّا أريد ، تخيّل يا جدّي لا أحد يعزمك على كاسة شايٍ هنا ، لا يُسلمون عليك طيلة الطريق ، تسير وحيداً ، تنظر إليك الأشجار ، الحجارة ، حتى الأرض ، نظرة الغريب.

ولكن ، ليس هذا كلّ شيء ، أخبرتك سابقاً عن برد الجنوب الألماني ، وعن احتياج القلوب للدفء – معاذ الله أن أقصد أن أغيد ليس كافياً ، أنت قد رحلت ولا أريد أن ألحق بك بعد أن يقرأ هو هذه الرسالة – ولذلك تعرّفت على فتاةٍ جميلة ، كان حديثنا الأول عن العراق يا جدي ، وكما كنت تلفظها لتختصر كلّ الصفات التي تخطر على بالك “نسوااان” ، استطاعت هذه المرأة أن تملك قلبي ، دخلته من الباب الذي أُحب ، حتى أنّها تعلمت من اللهجة الكثير ، وبالكثير أكاد أقسم أنّها تعلمت ما لم يسبق لشخصٍ من خارج ما بين نهرينا أن يتعلمه ، برد الجنوب الألماني يُصبح حنوناً معها يا جدّي.

كُنتُ أودّ إكمال الحديث لك عن الأصدقاء ، هذا ما أنا أكيدٌ أنّي ورثته منك ، هم كثرٌ كما كانوا أصدقائك يا جدّي ، أتذكر عندما أخبرتني يوماً كيف أنّك كنت تخرج من المنزل عابراً مسافات شاسعة وفي كلِّ نقطة توقف لك صديق ، هكذا أصبح طريقي ، وقد حرصت أن أتحدّث عنك لهم ، الكثير منهم بات يعرفك كما أعرفك.

أخيراً ، أظنّ أنّ هذه الرسالة لي ، لم تكن لك منذ البداية ، هذه الرسالة لتذكرني بمن أحب ، أنت ، عائلتي ، حبيبتي ، والأصدقاء ، هذه الرسالة لتذكرني أن البشر يذهبون ، إلّا الطيبون منهم ، أنت طيبٌ يا جدّي ، أحبّك كثيراً ، وما زال خبزك فينا

حفيدك المُحب

سرمد