لطالما أصرَّ أبي على تسمية منزلنا باسم “مَسْكنْ”، وفي كلِّ مرّةٍ يذكر هذه التسمية، كان لابد له من الشرح المطوّل عن دلالة الاسم، خاتماً شرحه الطويل بجملته المعهودة “يا ابني، يكفي أنّ مسكن من السَكِينة، هنا اطمئنان لقلوبنا”.

بصراحة، لم اعترض يوماً على شرحه وتكراره، تربّى أبي على  يد جدّي الفلّاح، شقَّ طريقه بين البساتين إلى كلّية طب الأسنان في جامعة دمشق، خمسُ سنواتٍ قضى الأشتية فيها كطالبٍ في طب الأسنان، وفي الأصياف تعددت مِهَنُه، أيُّ مهنةٍ قريبة من الأهل وتُساعد على تحمّل تكاليف الدراسة والإقامة في العاصمة البعيدة، تكون المُختارة.

تخرّج أبي، قضى ما يقضيه الشباب بين خدمةٍ إلزاميّة وتحضيرات لما بعدها، ومن مثله كمغامر، لا يتوقف، يبحث عن مغامرةٍ جديدة تُرضي حماسه، وهنا كما الأفلام الرومانسيّة، قرّر أبي ابن الريف البعيد الحدودي -الضائع بين العراق وسوريا-، أن يتزوّج ابنة المدينة -ومركز المحافظة-، وأقرب من الأفلام إلى الروايات ذات الحبكة الأجمل، تقرّر من أصبحت أمّي لاحقاً أن تقوم بالتدريس في المدينة الريفيّة بعيدةً عن مركز المحافظة حيث وُلِدَت وترعرعت وتخرّجت، ولتكتمل الحبكة الرومانسيّة، تُقرر تشارك السكن مع طبيبة أسنانٍ هي زميلةٌ لوالدي، ومثل كل الروايات المحبوكة بحب، لا بد من نهايةٍ جميلة، تزوَّجا.

كان مسكننا الأوّل، منزلاً اجتزأ والدي منه غرفتين لفتح عيادته الخاصّة، بينما كان يجهّز “مَسْكننا” الخاص، يبدأ دوامه الصباحي بوظيفته في المركز الصحّي، يذهب بعدها ليشرف على العمّال حيناً، ويشاركهم أحياناً أخرى، ومن ثم يعود إلى دوامه في العيادة مع أوقات مستقطعة يرانا فيها.

لم يكن طقس مدينتي هو الأفضل، أجواءٌ أقرب للصحراويّة، عواصف ترابيّة كثيرة وبردٌ قارسٌ شتاءً، وهنا كانت الأحيان الأخرى التي تحدثت عنها سابقاً، لم تمنع العواصف يوماً أبي من الخروج لترطيب الاسمنت، لم يمنعه البرد من الذهاب لاستكمال بناء جدارٍ ما، حتى أنّ أبي قد تعلّم طلاء الجدران، وهكذا عمل حتى أصبح المنزل مسكناً لنا، مع الحرص على وضع بعض الذكريات بين أحجاره.

لي من الذكريات فيه ما يكفي للحديث عنها حتى آخر العمر، لم أستطع التحدث عن معظمها منذ غادرته.

غادرت ذلك المسكن باستعجال، كنت قد خرجت من الاعتقال حديثاً، لم أطق ما حملته المدينة من ذكريات، بين الحين والآخر، أتيه في وجوه المغادرين لمنازلهم، المودّعين لها، مرّة أقنع نفسي أنّني غادرته مسرعاً شاكراً لِنعمة عدم معرفتي أنّها ستكون المرّة الأخيرة لي هناك، مبتعداً عن كلّ التأويلات التي كان من الممكن حدوثها لو عرفت حينها، ومرّة أتمنى لو أنّني عرفت، على الأقل، لم أكن لأدير وجهي عنه وأنا مبتعد، وددت لو حظيت بنظراتنا الأخيرة لبعضنا البعض.

تدمّر ذلك المنزل منذ ثمانية أعوام، أتذكّر تعرّفي على الأحجار المتبقية من المنزل، شريطٌ مصوّر يتحدث مصوّره عن نعمة عدم وجود أحدٍ من سكّان المنزل فيه إذا أنّ ثلاثة براميل كانت كافية لسقوط شهداءٍ من الجيران، كيف لو كان فيه أحد؟!

لم يذرف أبي ولو دمعةً واحدة، رأى المقطع عدّة مرّات، وقال “أنتم مسكني، بسلامة روسكم يا وِلِدْ”.

أقمت في سبعة منازل منذ ذلك المسكن، لم أسكن في أيًّ منها.

يمرُّ كلَّ ما سبق أمام عيني وأنا أتمشّى عائداً إلى المنزل، أرتجف، لا برداً، بل خوفاً، ارتجاف القلب الذي لا ينفعه التدفئة الأوروبيّة، يمرُّ كل ما سبق بعد أن وصلت المنزل دون أن أنظر للطريق، أَخافُني، حفظت الطريق للمنزل، أخاف التعوّد، ولكنّني تعودت!، وما زال ما سبق يمرُّ أمامي، اليوم، البارحة، ومنذ أربع سنوات.

ليس الطريق أو المنزل وحدهما فقط ما يخيفني، أخاف خزانة الملابس أيضاً، لذلك أحرص مذ غادرت مسكني، على إبقاء بعض الملابس في حقيبة السفر، أكره إفراغ كل ما في حقيبة السفر، شعورٌ بالاطمئنان أحتاج إليه، أشعر به بإبقاء بعض الملابس في الحقيبة.

زرت اليوم طبيب الأسنان الخامس، أذهبُ إلى طبيبٍ مختلفٍ كلّما شعرت بالألم، أضع حججاً واهية دائماً -هذا الطبيب الألماني سيّء، لا يكفي أن يكون الطبيب عربياً يجب أن يكون سوريّاً أو عراقيّاً، أُفضّل طبيباً أبعد- والكثير من الحجج الأخرى، أي حجّةٍ تكفي لتغيير الطبيب، أقبل بها.

كان هذا الطبيب هو الأسوأ، سألني عن طبيب الأسنان الذي صنع لي “تلبيسة الخزف”، مادحاً هذا العمل بجملة “يبدو إنّه طبيبٌ يحبّك إلى درجة صنع قطعةٍ تجعلك مبتعداً عن الأطباء لمدّة طويلة”، خاتماً كلامه بقهقهة، لم يَعرفْ الأطباء السابقين أن والدي هو هذا الطبيب، لم يعرفوا أنّه بنى لنا مسكناً، لم يعرفوا أنّني أغيّرهم باستمرار كي لا أتعوّد، كي لا أتجرّاً على مناداة أيٍّ منهم باسم “طبيب الأسنان الخاص بي”، لم أكمل جلستي عنده، اعتذرت لأسبابٍ خاصّة، و ربما أبحث عن بديلٍ له، ربما يكون أقلُّ خبرةً منه، أفضّل على الأقل ألّا يعرف أنّني أزور عيادته لعجزي عن زيارة عيادة أبي، على الأقل ليس من الجلسة الأولى.