عادةً يُرافق الخوف أحداثاً أخرى، أي أنّنا نشعر بالخوف كردّةِ فعلٍ أوليّة تطرأ لنا بسبب حدوث شيءٍ ما، وعلى الرغم من أنّ هذا الأمر يحدث لجميع البشر، مع اختلاف درجاته، إلّا أنّني أشعر بتفاقمه، حتى مع توافه الأمور، أخاف بطبيعة الحال لأنّي خُلِقتُ سوريّاً -وبصراحة هذا شيء طبيعي تماماً يشاركني فيه ملايين آخرين-، ولكنّني مؤخراً أصبحت أخاف حتى من حبّة اللوز المُرّة، انقطعت عن أكل اللوز، أخاف من حبّة هيلٍ تُعكر وجبة الأرز، لم أعد أضع الهيل في الطعام، وخفت التدوين، فانقطعت ثلاث سنواتٍ، لذلك قررت أن أواجه على الأقل مخاوفي بشأن التدوين، قررت الكتابة.

لم يكن الخوف جزءاً من حياتي لسنواتٍ طويلة، ربما لأنّ ما واجهناه في بقعة الأرض التي كانت تخادعنا أنّها وطن، جعلنا نشعر أنّه من أساسيات الحياة، تستيقظ، تأكل، تذهب للعمل، تشرب الماء، تخاف، تخاف، تخاف كثيراً، حتى يصبح الخوف جزءاً من روحك، يوهمك أنّك أصبحت منيعاً، تتوقف عن الشعور به، حتى طبيعة حياتك -ومع كل ذكرٍ لكلمة طبيعة أو طبيعيّة دعونا نجعلها مجازاً، لا طبيعي في حياة السوري- تبدأ بالاندماج مع كل هذا الخوف، تتأقلم فيما بعد لتصبح المواجهة تصرفاً عابراً لا خياراً، وينطبق هذا حتى على الأمثال، ليصبح باباً تأتي منه الريح، يجب أن تفتحه لتهوّي المكان، بدل أن تغلقه لتستريح.

ولكن، لم يكن خوفي في ذلك اليوم طبيعياً، لم يكن ردة فعل، لم أكن أشعر بالخوف، بل كنت أعيشه، أعود للمنزل سيراً على الأقدام وأنا أتحدث مع أحد الأصدقاء عبر الرسائل، أفقد الشعور بما يحيط بي تماماً وينصب تركيزي بالكامل على محادثتي، مضى من الوقت ما أقدره بحوالي نصف ساعة، أجد نفسي على باب المنزل، أصبح عقلي الباطن يحفظ طرقات هذه المدينة تماماً، أصبحت هذه المدينة وطرقاتها جزءاً من عقلي، احتلّت قسماً من ذكرياتي، عدت دون أن اضطر للتلفّت حولي أو إلقاء نظرةٍ عابرة على تطبيق الخرائط، هل هذا ما يشعر به غير الخائفين في أوطانهم؟! هل أصبحت غير خائف؟ أما الأسوأ، هل أصبحت هذه المدينة وطني الآن!؟ تلكَ لحظة عرفت فيها ألّا حدود للخوف، لماذا يخاف من استدلّ طريقه؟، هل استدلّيت؟!.

قرّرت ألّا تكون هذه التدوينة عن الخوف، ولكنّها كانت مُقدمّة ضروريّة لمن أُحب، وأتمنى ألّا تكون متأخرة، أصف ما سبق، كي أشرح لمن أحبهم حالتي، ربما في السنوات الأخيرة كنت قاسياً، أحياناً بشكلٍ مفرط، ولكن هذا ما يفعله الطفل في الازدحام عندما يدخل الرعب قلبه، عندما يشدّ على يدِ والده، لا يكون إيلام يد والده هدفاً، ولكنّه يحاول التمسّك من الضياع، من الغرباء، من كل هذا العالم الموحش، من الخوف.

لم تكن راڤينا أو محمد، وأخصّهما لأنّهما لم يكونا يوماً كأيّ شخصٍ في حياتي، يُقال إنّ لكلٍ شخصٍ ملاك وشيطان بداخله، ومع كل الشياطين التي تملّكتني طوال حياتي، كانا الملاكين الأقوى، في قلبي لا على كتفي، كنتُ جريحاً ككل سُكان ذلك الشرق -تقريباً-، ولم يكونا ضماداً أو دواءً فقط، بل أصبحوا خيوطاً لهذه الجراح، ما التأمت إلّا وهم جزء منّي، أو للدقّة، جزءاً أحسُّ به أكثر منّي فيَّ.

وربما هذا ما جعلني حتى لا أستطيع أن أقارنهما بالنَفَس، لم يكونا عمليةً لا إراديّة، بل كانا أشبه بشهيقٍٍ أخير لذلك الغريق، يسحب بكل ما لديه من خوف، من رغبةٍ في النجاة، من إرادة لهذه الحياة، كي لي أن أكتفي من ذلك الشهيق؟!.

“أنت روحي

وروحي چم حب تدري بيها

حبها للگاع وغرسها، ومايها، ومن مشى عليها”