“قوّة صابر، چنّي منسي، وطوّل بديرة غريبة، ومن رجع لولايته تعيّر غريب”، يرافقني هذا البيت من قصيدة شعرٍ شعبي عراقي منذ سنوات، يواسيني أحياناً، ويُبكيني في معظم الأحيان. أنت غريبٌ في ديارٍ غريبة، ولكن إن أطلت غُربتك فسوف تصبح غريباً عن تلك الديار، ديارك أنت.

عاش جدّي غريبُ دار، ومات غريب قبر، قرّر هجران العراق في شبابه لُيصبح سوريّاً عن طريق الصدفة البحتة، فقد جعله مسحٌ سُكّاني من أهلِ البلد، لم يشمل المسح مَسكن أخته التي تبعد بضعة كيلومترات لتبقى عراقيّة، ولن أدخل بقصة فراقهم لأكثر من خمسين عاماً، اقتصرت خلالها رسائلهما ومكالمتهما على بعض الدموع والشهقات، ليس موضوعنا الآن.

أورث لنا جدّي صدفته، أصبحنا سوريّين على الورق، رغم أنّنا ورثنا اللهجة والعادات والتقاليد وكلّ ما ليس سوريّاً، ولكنّنا على الورق سوريّين، حتى لو كنّا “مناطق نامية”، شبيهة بما يُسمّى “دول العالم الثالث” في العالم المتحضّر، كانوا يروننا محافظات من العالم الثالث.

ربما ورث محمد -أخي- قليلاً أكثر ممّا ورثنا من جدّي، ورث اسمه، ورث الاسم الذي تكنّى به “أبو محمود”، و ورث الطريقة غير المكتوبة وغير المتداولة، كيف يصبح بيت الجد.

أتذكّر خوفي للمرّة الأولى في الاغتراب، سرت في الشوارع وعدت إلى المنزل دون استخدام تطبيق الخرائط!، وكان الأمر مرعباً، أن تحفظ قدماك الطريق وأنت شارد، ترتعد فرائصك، الآن أنت مُنتمي للمكان حتى في عقلك الباطن.

مشيت للمرّة الأخيرة في مدينتي، واحترت بصراحة كثيراً قبل أن أضيف ياء التملّك، أقصد ديرالزور. كان يوماً غائماً، وكأنّ الأجواء كانت بحاجة هذا الطقس لتكتمل الدراما.

كنت وحيداً، رغم اكتظاظ من حولي محاولين تكذيبي ومنعي من الوحدة. ربما لأنّنا كنا نتسابق، إذ تعوّدنا أن نسابق ساعة موتنا في حينها، نفرُّ من كل شيء.

أتذكّر تلك اللحظات بالتفصيل، ربما لأنها من اللحظات القليلة التي شعرت فيها بالانتماء. أو ربما كانت أشبه بتمسّكِ جذرٍ بالأرض عند محاولة اقتلاعه.

عودةً إلى صدفة جدي، نسيت أن أخبركم أنها لم تُكمل معي. بعد اعتقالي ومرور الشهور، لم تجد عائلتي طريقةً لإخراجي إلّا بالرشوة -وكأن هناك طُرقاً أخرى في سوريا-، وشملت الصفقة عدم خروجي بشكلٍ رسمي، أي بدون أيّ أوراقٍ ثبوتيّة، وبهذا لم أعد أملك الخيط الرفيع الذي تركه لنا جدّي، ولم أعد أستطيع وصف نفسي بأنّني “سوريٌّ على الورق”.

منذ فترةٍ أصبحت ألمانيّاً، ولأكون صادقاً، كنت أظن أنّني سأكون أكثر فرحاً، انتظرت فترة قبل كتابة هذا النص على أمل أن أشعر بشيءٍ مختلف، تركّزت كل فرحتي على الجوانب العمليّة -وهذا مُخيف أيضاً لأنه أمرٌ ألماني بحت-، سوف تصبح لعنة الفيزا أقل، ولن أُحرم من رؤية الأحباب متى أردت، ولن اضطر لدخول دائرة تجديد الأوراق بين الحين والآخر، ولن اضطر لشرح حالتي لموظفٍ ليس مهتم حول لماذا لا أملك أوراقاً سوريّة وكيف يجب أن أثبت أنّني سوري -رغم أنّني لا أهتم بذلك أيضاً-.

ربما أن تكون سوريّاً لوقتٍ طويلٍ كما كُنت، يجعلك تضع سقفاً لفرحك، حتى لو لم يكن لديك إثبات أنّك سوري، أو حتى لو أصبحت ألمانيّاً!