بصيرٌ فقد بصره ، حملٌ صغيرٌ كان مصيره أن يصبح وجبة طعام ، كانت الغُربة لي مرحلة إعادة استكشاف ما حولي ، الغُربة تطرد الاستقرار مهما اعتدنا عليها ، اكتشفت هذا مذ خرجت من معبر تل أبيض ، اقترب من انتهاء عامي الثالث في الغُربة ، تتعلم أن تلاحظ ما كان اعتيادياً بالنسبة لك ، تلك الأمور التي لم تلتفت إليها يوماً ، محاولة أمك إيقاظك ، وجبة فولٍ تجمع عائلتك يوم الجمعة ، رفاق الشاي والقهوة ، ماء الفرات ، فُراتنا نحن ، لا الفرات الذي يعرفه الطغاة الآن ويحتلّوه.
منازلنا التي كانت شواهد حيّة ، “فلانٌ يحبُّ فلانة” ربما كان فلان أحد أجداد من أعرفهم ، وربما تهجّر مثلنا ولم أعرفه ، تلك الجداريات التي لا تقلّ أهميّة عن جداريات متاحف العالم ، إلّا أنها مجانيّة ، مرتبطة بنا.
لم أعد مهتماً بما سيكون ، نحن أبناء الزمن الذي كان ، سابقاً لم أكنّ من المهتمين بالأسماء ، يا الله كم هو جميلٌ اسم ديرالزور و الرقّة اليوم ، أسمع لهجة أحدهم في الشارع ، لا أسمع ، بل تعصف فيّ تلك الكلمات ، كلمات غير مرتبطة بي موضوعاً ، مرتبطة فيَّ حنيناً ، شوقاً ، مجذولةً بالروح ، لا يبالي هذا الأحد بي ، يواصل حديثه ، وأنا الذي أحاول تتبعه ، “أسند طولي” – كما يقولون – ببضعة كلمات ، أحاول السير مغمضاً ، أركز حواسي على تلك الكلمات فقط ، ويبتعد ، كلماتٌ تُرجعك للتفاصيل القديمة ، لم يبقى من الأصحاب إلّا القليل ، ويفصلني عن الأهل “فيزا” ، ولكن الذكريات والحنين مثل الكيمياء ، وآهٌ من “شكون” محرضّة للتفاعل.
تُرِكنا كالأيتام فقداً ، مشتتين والحزن هو الجامع الوحيد لنا ، نعلم أن حزننا لا يشفع لنا ، ولكننا نبحث عن سماح الأرواح ، أرواحنا التي أذنبنا بحقّها.
بدا أبي خائفاً يوم قرّر الخروج من تركيا ، كان خائفاً علينا ، هو الذي “ورث” النزوح العراقي ، ومن يَرِث التهجير في هذا العالم غيرنا !؟ ، سألني حينها “ماذا بعد؟” ، كيف أخبره أنني لا أعلم ، كيف أخبره أنني لا أعرف أيّ أرضٍ ستجمعنا لاحقاً ! ، كي لأرضٍ بتلك المساحة لا تستطيع إعطاءنا مترين لنجتمع ! ، كيف لقدرنا أن يكون الفراق من بين 7 مليارات إنسانٍ على هذا الكوكب! ، لا يمكنني أن أطلعه على عدم معرفتي ، كيف لي أن أخبره أنّنا ورثناه حيّاً ، ورثا نزوحه والحزن.
في الآونة الأخيرة صرت ألجأ للبكاء ، وهل أنا صخرة لأتحمّل كل هذا! ، تكبر ابنة أخي على مهل ، تقارب عامها الثاني ، ولكن البلد يحترق بسرعة ، كما قلوبنا ، كما قلب أبي وأمي اللذان لم يراها بعد ، إنْ كنّا نكبر في الغربة فهذه حفيدة الغربة بالنسبة للأهل ، نستمر ، ونبرّد قلوبنا بالمكالمات ، ليس سوى بضع مكالمات .
نسكن بجانبي أخي ، أظنّ أنّه السبب الوحيد لاستمرار تنفسنا حتى يومنا هذا ، ورغم ملاصقة منزلنا لمنزله ترفض رندة – ابنة أخي الصغيرة – أن تبقى عندنا ، هي تأتي لزيارتنا و تبكي للعودة إلى أهلها ، نُجبر على إعادتها ، حاولت ذلك عدّة مرات ، بكيت كثيراً مؤخراً ، أظن أنّ أحد الأسباب كانت محاولات مستمرة عسى أن يأخذني أحدهم إلى والدي ، ليت الأمر كان بتلك البساطة ، ليتني رندة وليتهم ملاصقين لمنزلنا ، يا ليت.