بِلادْ

“نحبُّ البلادَ

كما لا يحبُّ البلادَ أحدْ”

كثيراً ما لفتني هذا السطر من القصيدة الرائعة للشاعر -محمد الصغيّر أولاد أحمد-، عرّف كلمة “البِلاد” واستخدمها جمعاً ولم يُعَرّف بالبلد ولم يعدّد أيّ بلادٍ في كل القصيدة!

تذكّرت هذا السطر منذ فترةٍ قريبة، مع بدء الحديث عن الانتخابات التونسيّة، تذكرته ثانيةً عندما لم أستطع النوم رغم كل التعب، خوفاً من أن أضيّع على نفسي أيّ مشاهدٍ قادمة لمظاهرة في مصر حاملاً فرحةً مع خروج كل مظاهرةٍ من مدنٍ لم أسمع بها من قبل وكأنّها مسقط رأسي، ولم أُشعر بالحرمان من هذا الشعور إذ لم يكد يَغِبْ السطر عن بالي حتى خرجت مدينتي، مسقط رأسي، بمظاهراتٍ أيضاً.

بدأت أفهم السطر، بدأت أعرف تلك البلاد، وعلى الرغم من أنّ العراق لم يكن يوماً إلا مُقاسماً لمحبّته مع سوريا، إلّا أنّني وجدت نفسي أردد السطر مع خروج المظاهرات في بغداد، لا ضير في تجديد ولاءات الحب، أصرخ به صامتاً

“نُحبُّ البلادَ

كما لا يحبُّ البلادَ أحدْ

ولو قتَّلونا

ولو شرَّدونا

لعُدنا غزاةً لنفسِ البلدْ”

تائهون

كثيراً ما كان يتملّكني الخوف في صغري عندما أكون في مكانٍ مُكْتظ، خصوصاً لو كان سوقاً تكثر فيه النساء، الكثير من العباءات تمشي من حولك ولا طول قامةٍ حينها موجود كي ترى الوجوه، سوادٌ في سواد، ولا ملاذ آمن إلّا يد أمّي

أتذكّر عدّة مرّاتٍ ترك يدِّ أمّي مجبراً وحينها يصبح الشارع أطول شارعٍ بالعالم كلّه، ورغم كلِّ الإشاعات عن “بوّاقات الولاد” إلّا أن شعور الأمان الصغير المؤقت عندما أمسكُ عباءة مشابهة لعباءة أمّي يجعلني أصبر بينما أجدها مرّة أخرى

يجتاحني هذا الشعور مؤخراً، إلّا أننّا هنا نمسك بعباءة كل ثورةٍ على الظلم لعدم قدرتنا على إيجاد يَدِنا الحنونة، نمسك بكلّ عباءة متعمّدين نبكي وكأننا أولادها الخائفون، نمسك بها، نبكي عليها، ننتظر بشوقٍ اجتماع أولادها بها، وكأنّنا أولادها والأم، وعلى الرغم من أنّ مساحة الأمان هنا ليست بصغيرة وأحياناً ليست بمؤقتة، ولكن لا يد حنون تُمدّ إلينا، نحن التائهون المتمسّكون بعباءة الثورات، كل الثورات.

شهيد

كثيراً ما تذكرت أصدقائي الشهداء في لحظات الفرح، حكى لي أبّي مرّةً عندما كنت صغيراً عن خالي الذي توفّى وكنّا نحبّه جداً، أنّه يرانا من السماء، إذ أنّ من يتوفى يستطيع رؤيتنا من السماء، رغم قلّة إيماني بالكثير من هذه الأمور، إلّا أنّني أؤمن بكلام أبي، أو ربّما قررت الإيمان لحاجتي بشعور الاطمئنان عندما يراقبنا من يحبّنا، فأتذكّرهم خوفاً من ظنّهم أنّنا نسينا، وابتسم إذ يقول شاعرٌ عراقي

“من تطيح أضحك ، لا تضل تنوح
ترا الجلاد تكسر خاطره الضحكة
و يلتذ بونين و شوغة المذبوح”

تذكرت البارحة أحدهم -الشهداء-، أقسم أنّني كنت على بعد دقائق من كتابتي استفساراً عن اسمه على البث المباشر، رأيته في بغداد محمولاً على أكتاف المتظاهرين يحاولون إسعافه، لم يستطيعوا، استشهد، فَطِنتُ على نفسي أنّه مجرّد تشابه، كلّ الشهداء جميلين، كلّهم جميلين.

كثيراً ما حاولت مؤخراً كتابة رسالة إلى جُمان، مرّ عامٌ ونصف على آخر رسالة، حتى في البُعد وعدم الكتابة أجد فيها رسالة منّي، لي

ليس ذنبي، مثلُ كلِّ رسائل العاشقين، ربما كنت مخطئاً باختيار الزمان، أو ربما لإننّي ممّن قرروا أن يُحبّون البلاد كما لا يُحبُّ البلاد أحد

“صباحًا

مساءً

وقبل الصّباحِ

وبعد المساءِ

ويوم الأحدْ

ولو قتّلونا

كما قتّلونا

ولو شرّدونا

كما شرّدونا

لعُدنا غزاة لهذا البلدْ”