يعيش الناس حجرهم المنزلي، إذ أصبح البقاء في المنزل دون عمل شيء هو أسمى الأفعال للحفاظ على البشريّة، يجلسون في منازلهم والكثير منهم يعبّر عن الملل مع كميّةٍ هائلة من الدعوات كي يكون الشخص “إنتاجي” و ينشر “الإيجابيّة” وكأنّنا في عطلةٍ ما، دون مراعاة الحالة النفسيّة التي يمر بها الكثيرون، وآلاف الأفكار الأخرى المتداولة، وهذا شيءٌ طبيعي، هذا الحال مع التجارب الأولى دائماً، ومعظم الناس يخوضون حجرهم المنزلي الأول، ولكن ماذا عن المحجورين خارج منازلهم؟!.

أحاول تذكّر حالات الحجر المنزلي التي مررت بها، حجري المنزلي الأول كان في مدينتي البوكمال، منذ حوالي تسعة أعوام، كان جيش الأسد يداهم المنازل بعد أن حاصر المدينة لمدة ثلاثة أسابيع، اضطررت حينها للبقاء في منزل أحد الأقارب، ولكن حينها لم يكن المرض متناهي الصغر كما الحال مع الكورونا، إذ كان مرئياً، بل ويتفنن بطرق القتل، مع أعراضٍ مُتغيّرة، ولم يكن حتى الأطباء قادرين على مقاومته، أيضاً لم يكن البقاء في المنزل كافياً، كان لا بد من أخذ الاحتياطات، ولا مقارنة مع الحالة النفسيّة أبداً.

تعددت حالات الحجر هذه حتى أصبحت أكثر من أن تُذكر، وربما هذه أكبر نعمةٍ تحدث للإنسان، ينسى بعضاً من تلك الأيام كي يستطيع الاستمرار، على الأقل مع الحد الأدنى للصحّة النفسيّة.

أثناء رحلة الذاكرة، خطرت لي مواقف أخرى، هل يُعتبر الاعتقال كحالة حجر؟ هل يختلف الحجر عندما كنّا في زنزانة جماعيّة -مع منع التواصل فيما بيننا- عن الحجر في منفردة؟

وفي هذه الحالات دائماً أتذكّر لماذا يسمّونه “عصفٌ ذهني”، خصوصاً مع أفكارٍ كهذه.

بل حتى أن المصطلح نفسه اختلف معه، “حَجْرٌ منزلي”، ماذا عن المحجورين في خيامهم؟ أو حتى في منازل لا يسكنونها، حيث يرتبط معنى المنزل والمسكن لدي بحقيقتيهما، خصوصاً أنّ أحد المصطلحات المُستخدمة لدينا هي كلمة “نَزْلُنا” وعندما تُقال يكون القائل قاصداً شارعهم المليء بالأقارب والأصدقاء، أو المسكن المشتقّة من السكينة، وفي هذه الحالة، آخر منزلٍ سكنته هو منزلنا في ديرالزور، كلّ ما بعده كانت مجموعة بيوتٍ سكنتها مُهجّراً من منزلي ذاك، نازحاً في عدّة أحيان، ومغترباً في أحيانٍ أخرى.

يحاول أحد الأصدقاء التهوين عَلَيْ، يصف لي جمال الحياة في ألمانيا ونعمة الحجر المنزلي فيها عن دونها، أتذكّر جملة أحد كبار السن وهو يقول “المزهرية لا تُحيي الورد”، ورودٌ قُطِفنا من أرضنا، مهما بلغ جمال المزهريّة، لا تستطيع إعادة الروح لنا، ومهما كانت حالة الطين، طيننا الذي نبتنا فيه، يبقى هو شريان الحياة.

أخرج بصعوبةٍ من دوّامة الأفكار، أعود إلى الحجر المنزلي الذي لم أتوصّل بعد إلى ترتيبه أو حتى جواز تصنيفه مع ما سبق من حالات، ولكنّني متأكد أنّه ليس الحجر الأول، ربما أولها الذي كان من اختياري، وأعيشه برفاهيّة لم تُوجد مسبقاً.