هذا المقال هو الأجزاء الأربعة الأولى من مجموعة “نائمٌ حدّ الموت أو أبعد” التي تحكي مذكرات اعتقال وتعذيب الناشط سرمد الجيلاني في سجون النظام السوري.

– الجزء الأول –

نائمٌ حدّ الموت أو أبعد – كلّ شيءٍ يضجُّ بالموت

بعيداً عن عالمنا الأزرق، الافتراضي، تجد نفسك الوحيد، دون أية جدوى، الذي تختفي انتماءاته. تتسرّب ببطء لترى الألم حقيقةً، تظهر دواخلها، يغطيها معناها، تصبح قائمة من الأحاسيس والألفاظ التي لا تقبل مجازاً.

أما في عالمنا الحقيقي، عندما تُفتح أبواب الكواليس، كواليس العروض الجميلة وسحر المسرح، كما ممثلوه قبل فتح الباب، يتحوّل الناس إلى لحمٍ و دمٍ، وكلّ شيءٍ يضجُّ بالموت. يندثر الشك، وتقتنع بوجودك مع استمرار دوران الأرض حول محور قيامته، وتدرك أنك هنا، خلف أسوارٍ بناها والداك، ومن قبلهما أجدادك، حجراً حجراً.

اعتقلوا والدي، وأنا ثلاث مرّات لم تكن كافية “لأتربّى” على حد قول “رئيس الفرع” الذي بيَّت نيّة بأن تكون الرابعة هي “الثابتة”. حاول كسر حتى مفاهيمنا البسيطة لإثبات هيمنته.

خمسة شبابٍ قُطِفوا من حديقة “ثورتنا” أثناء مظاهرة سلميّة كانت كافية لإشعال المدينة ليلاً بـ”التكبيرات” بجميع أحيائها، عدا الحيّ الذي أسكنه. ولأول مرّة، كان مسكّناً مشبعاً بمعناه في الوقت الذي كان عليه بألا يكون كذلك، وذلك على الرغم من عدم انتظاري الكثير من المدينة التي تعجّ بالأفرع الأمنيّة القريبة والمتعاونين معها من السكان.

الليلة الثالثة. هدوء بعد تعطيل المحوّل الكهربائي الرئيس للحي، شققته بعدة تكبيراتٍ من سطح منزلنا كانت كافية لأسمع صدى صوتي وسط الصمت. ما هي إلا دقائق حتى اطمئنّ عديدٌ من الأصدقاء وعلت أصواتهم معي. لم أكن وحيداً، كانت هناك لائحةً طويلة من الأصدقاء الذين لم يكن للخيال دورٌ في نسجهم. كانوا لوحةً تطابق التطلّعات. تدرك أن المارد يخرج من قمقمه، لكنك لا تأبه.

اتصالٌ من والدي: حضر نفسك، نلتقي في فرع الأمن العسكري. انتهت المكالمة.

اكتشفت وقتها أنّك مهما حاولت امتصاص أكبر كميّة من “السكر نبات” لن تذهب بحّة صوتك بعد هتّافٍ من القلب قبل موعدك في فرعٍ أمنيّ. وصلت. يجلس العقيد غسان مع عدّة عناصر،  والدي وأنا.

بدأ العقيد غسان بالحديث: “سمّعني صوتك وأنت عم تكبّر ولا مو شاطر بالتكبير إلا وأنت بعيد عنا؟” كان يَقطُر لؤماً مثبّتاً عينيه عليّ. “لأ وكمان إلك عين وتحطها بعيني بدل ما تحطها بالأرض!”

لم أكن شجاعاً، ابن الثامنة عشر للمرة الرابعة في نفس الفرع. أرجّح أنه كان طيشاً، غروراً، أو ربما ثورة. كنت واثقاً من إجابتي: “ما توقعت إنك لحقت تنسى صوتي من امبارح، ما أتوقع نسيت إنو ما سبق ونزلت عيني حتى أنزلها اليوم”.

أقصر حوار يمكن أن يتسبب بما تسبب لي فيما بعد – مع عدم ندمي على ذلك. “زتوه بالمنفردة ورجّع أبوه كمان ع المنفردة”.

“رجّع أبوه ع المنفردة”. تلك الجملة النتنة التي لا تنفكّ رائحتها تعشّق في أنفي حتى اليوم، بعد “متلازمةٍ” لشهورٍ كانت أكبر تعذيبٍ نفسي.

أعبر الساحة، المكتب الأول الذي أترك فيه أماناتي، أعود للساحة، أدخل المكتب الثاني الذي يليه ممر للمنفردات، أحفظها تماماً قبل أن أدخل. يبدو أن منفردتي، وعلى عكس العادة، ستكون أكبر هذه المرّة، إذ لا يشاركني فيها إلا سجين واحد، وعلى غير المعتاد استطعت الجلوس فوراً دون انتظار الدور.

دقائق كادت تعادل نصف العمر. خرج السجّان، وبوسيلة تواصلنا المُتعارف عليها، ضرب الحائط بقبضة اليد، عرفت أنه شابٌ يبدو في “مُقتبل الاعتقال”. وبعد ترددٍ طويل أجابني، المنفردة التي بجانبي والأخرى التي أمامي، كلتاهما تنفي دخول أي رجلٍ. ليس كبيراً في العمر، وليس صغيراً، تظهر عليه الهيبة، يشبهني، ويطلقون عليه “الدكتور”. ما من معالم لوجهي في هذا الظلام الدامس، وما من أطباء هنا، جميعنا أرقام. “ربما صوته يشبه صوتي؟” جميع الإجابات تنفي. ربما أخذوه للزنزانات الكبيرة، ربما ساقوه للتحقيق فوراً، إذ أكّد المحقق أنهم سيخرجونه إن بقيت أنا. كاذبون. لا أجد “فزّاعةً” تُسكت كل هذه الغربان الآكلة في “بستان” العقل.

بدأ التكبير من الخارج، يبدو أن الساعة وصلت العاشرة ليلاً، الموعد اليوميّ للتكبير. فُتح الباب. كنت متيقّناً أنّ نذير الشؤم لا يأتي إلا أسوداً حتى رأيت ضوء الممر الأصفر الذي ساق لنا المساوئ عند “رعد”، بعد قفل الباب القديم.

“اطلاع ع التحقيق”. عرفتُ السرّ: حفاظاً على أمن البلاد منّا وكي لا نطلق العميل والإرهابي الذي يسكننا، يتمسّكون باللهجة التي نُسبت لـ”العلوية”، ورقة ابتزازهم الطائفي، و زاويتهم التي ينظرون منها، لا وطن ولا دولة، هي لعنةٌ أسموها عيشاً مشتركاً ليجعلوا من مجرم فصيلتهم البطل.

أدخل غرفةَ التحقيق حيث “أبو عماد” صاحب الجسد النحيل، القصير، بالنسبة لي على الأقل. بدأ حديثه “الودّي” رغم عدم قدرته على إخفاء تعابير وجهه: “يا ابني، أنت لساتك بأول عمرك، بتقدر تعمل كتير قصص أهم من إنك تضيع عمرك ومستقبلك مع كم صايع عم يطلعوا مظاهرات رح تخلص عن قريب”. لجأت للصمت. حفظت هذه الأسطوانة عن ظهر قلب، لم أعد أذكر متى تماماً، عندما صار التعرض للكلام الودّي، ثم الإهانات واستعمال الضرب، كوسيلة للحوار، أمراً طبيعياً. لم أهتم كثيراً بمتى وكيف. يقينٌ قلبيّ راودني باعتياد العِقاب دون خطأ يستأهله، أن يأتيني بكلّ الأشكال، توكل إليه مهمة أخذ ما يستطيع من جلدي، أو ما يودّ تسميته “اعترافات”. يبدأ بـعصا تٌستخدم كأنبوبٍ مقوّى في التمديدات الصحيّة. يستمتع جلّادك بالصراخ، أعطه متعته، لا مجال هنا لأن تقارعه بالسكوت. لم يُطربه كثيراً ما سمعه، فاستبدل بالعصا كبلاً كهربائياً – في اعتقالي الأول دار تساؤل بيني وبين نفسي عما إذا كان المحقق يعمل في جمع الأدوات القديمة أم أنه بدأ بعمله كمحقق مع هذه المعدّات فوراً. كبلٌ مجدول، أربعة أكبالٍ جُدلت لتُنتج لنا هذا الاختراع العظيم – بنظرهم.

كانت ساعةً فقط، تناوب خلالها ثلاثة، وأنا بقيت في مناوبتي ذاتها. بدأ الجسم بالخدر، وفقدت صوتي كي أستمر بالصراخ. تحسّس البرود داخلي، لم يعجبه الأمر، فرادوته فكرة وخزي بعصاةٍ كهربائية. كهرباء سرت في جسدي كانت تكفي لإعادة التيار الذي قطعناه عن الحي في ليلتنا السابقة. جسمي شبه العاري، الممدد على الأرض، كافٍ لتفريغ الشحنة فورياً. ذهب الخدر وعاد الألم من جديد. ساعتان عِجاف ثم قرر أن يُنهي سهرته على ساعةٍ أظنها منتصف الليل. قررت العودة والنوم، أو دعنا نقل أنه كان خياري الوحيد.

ما هي إلا ساعات، ولولا أذان الفجر لظننتها دقائق. فُتح باب المنفردة وأطلّ الضوء المشؤوم. “اطلاع ولاك لبرا”.  أجيب بصوتِ المراهق المرهق: “يا سيادة المحقق يعني أنا أبوي ما ينام ويصحى إلا على وجهي”. “أخرس واطلاع عندك نقل”. كانت مفردة جديدة أسمعها منه. في المرات السابقة كان إخلاء السبيل من المفرزة. إلى أين سيتم نقلي!

– الجزء الثاني –

نائمٌ حدّ الموت أو أبعد – أسمال الإنسانية

 

خرجت. مشهد باص أبيض سُجّل في ذاكرتنا مع العناصر الذين يركبونه طيلة الأشهر السابقة. صعدت وحيداً من بين المعتقلين، مع السائق و”الترفيق” كما أسموهم وهم خمسة عناصر يرتدون الزي العسكري بكامل عتادهم. دام الطريق لثمانين رفسة وما يقارب المئة جلدة بسوطٍ أظن أنه من جلد إطارٍ لدراجة هوائية، وساعة إغماء، ثم وصلنا.

أنزلوني بالاستقبال ذاته في فرع الأمن العسكري بدير الزور. عشرات المعتقلين في الساحة. ندخل جميعاً لممرٍ عريضٍ وطويلٍ، نتوزع على جدرانه، يحيط بنا ما يقارب الثلاثين عنصراً من الفرع. سلّم العناصر المرافقون لنا “الأمانات” من نقود وغيرها كانت معنا للغرفة الصغيرة في بداية الممر.

“اشلح أنت وياه”  يبدو أنه أعلى رتبةً ممن حوله. بدأنا بخلع ما علينا. الجاكيت الأزرق، والذي حاولت الحفاظ عليه أكثر من جلدي، كيف لا ومالكه أخي أغيد الذي كان يودُّ ارتداءه و لم يجده، ولم يجدني، فتعلقت بقشّة عسى أن يكتب الله لي الخروج كي لا يستشيط أغيد غضباً. هو يصلّي ويتعبّد الله كثيراً فلا بد أن الله يستجيب له. أكملت حتى بقينا باللباس الداخلي. “امممممم يبدو إنو هالعرصات أول مرة يجربوا الفرع. اشلح كلشي أنت وياه واعمل حركتين أمان، نط وأنزل قرفصة بسرعة ما عندي طول اليوم إلك”.

لا أخلع لباسي الداخلي هنا، بل هو نزعٌ لأسمال الإنسانية. أربعون عاماً وهذا ما أرعب أجدادنا، ثم آباءنا، والآن نحن. لم يكن هناك من داعٍ لأن تسجنوننا، لم يكن هناك سبب لتلحقوا بنا كل هذا العار، أيّ وطنٍ كلانا فيه يكافئنا بكم! أيّ وطنٍ يجعل من مذهبك فرصةً ذهبية كي لا تخلع آخر قطعة ملابس ترتديها! ربّما أحتاج لإعادة تعريف بعض المفاهيم.

الوطن؛ ليس وطناً في هذه اللحظة، هو رقعة من الأرض، التقى فيها البشر، وكان لزاماً علينا أن نعيش معاً، نحن وهؤلاء، أو أن نموت نحن وحدنا. القوة لمن يملك السُلطة على هذه الأرض. المجد للحفاة العراة حاملي أوطانهم في القلوب. يمرُّ شريط الاستنكارات المستمرة مما فعله الأمريكان في “سجن أبو غريب” والذي ندد به زعيم من ارتفع صوته الآن، ولا أقبح ممن ندد بأبي غريب ولم يتنازل لسماع أصواتِ هتافاتٍ وصلت قصره، لا يصدّق أنه عرّى نفسه ولم يعرّنا نحن، فالحرّ مستورةٌ عورته.

على وقع التهكّم والشتائم المستمرة نرتدي ملابسنا ويبدأ الفرز على الزنزانات. “سرمد ع الجماعية الثانية”. أدخل للزنزانة، هدوء، الجميع ينظر للسجين الجديد. أعلّق “الجاكيت الأزرق” في الزاوية على قطعة حديديّة رأيت بعض الملابس عليها. ليس مهماً أن أعرفهم فوراً أو لا، المهم أن الجاكيت سيبقى بخير. أجلس بجانب الباب، هنا يجلس المستجدّون على حد علمي. الجميع حَذِر. “أريدُ قليلاً من الماء” قلتها بصدرٍ مثقل. لا ماء ولا أكل منذ يومٍ وليلة. “تفضل أخوي، وفوت أقعد جوا لا تضل ع الباب”. صوتٌ متعبٌ مثلي أدخل الاطمئنان إلى جوفي قبل الماء. نمتُ جالساً من الإنهاك، لم أفق إلا ليلاً، أو هكذا أظن قياساً على الوقت دون شمسٍ أو قمر.

وحيداً في زاوية الزنزانة، رغم اكتظاظها. كم من الأوطان يسجن جسدك؟ يحاول حصر أكبر عددٍ من الجموع البشرية، تزحف إليها، تستجديها طفلاً ضاعت أمّه، تخذلك! أمسح بـيدي على الحائط وكأنه جُبِلَ من طينٍ ودمّ. كم من الأوطان دفن ابن الثامنة عشر، هلَّ عليه التراب، خنقه، ومشى، وكأنني ما كنت هنا.

ربما هم لا يريدون سجننا، بل يحاولون صنعَ وطنٍ لكلِ فرد طالب بالحرية، لربما جمعونا هنا كي يوزعونا على أوطانٍ أصغر، فندور حول أنفسنا ولا رؤوس تُرفع، ونروي القصص لأولادنا عن رأسٍ مُدّت إلى الخارج، وما رجعت.

يقطع الهدوء صوت “طبطبة” يَدَي رجلٍ أربعيني على الحائط. يضرب براحة يده بخفّة، ليس بقبضته كما هو معتاد. يرى شابٌ بجانبي نظرة الاستغراب. “يقوم بالتيمم. لا يوجد ماء هنا إلا في الحمام، نشرب منه و نتوضّأ أحياناً، ولكن العم يُفضل التيمم قبل كل صلاة”. يقف في زاوية الزنزانة بعد وقوف العديد من الشباب معه، يبدأ الصلاة، صوتٌ خافت لقراءة القرآن. أحاول مراراً الابتعاد عن وصف قياس الزنزانات، هي أصغر من الوصف، وللحظات كانت أكبر من مسجد حيّنا. “آمين” نثرت روحانية كانت أكبر من رهبتي عند دخولي الأول لكنيسة.

“يا رب، أغيد أخوي يصلّي، وهو يضل يدعي، وأنا مو كرمالي بس كرمال جاكيتو الأزرق، مو معقول يصير عليه شي وينزعج، طيب أبوي أيش صار بيه، هو كمان يصلي ويدعي كثير، مو معقول ما يطلع”. حوارٌ داخلي، نمت بعده.

السادسة صباحاً، كما قال السجّان عندما دخل. “الكل واقف و وجهو ع الحيط”. انتهى من التفقّد. “عبد الرحمن، سرمد، عدنان، أحمد، اطلعوا لعندي”. هؤلاء وصلوا فجراً أثناء نومي، هذا ما عرفته لاحقاً. دخلنا إلى غرفة شبه فارغة. طاولة وكرسي بجانب الباب، عدّة “كلبشات” في آخر الغرفة، مع أنبوب حديدي وَضع في مكان أنبوب الستارة ورُبط به “جنزير” يتدلّى منه. على حسب الرتبة فقد كان “ملازم أول” هو من يجلس خلف الطاولة، يرتدي بدلة مميزة، تشبه بدلات قوات البحرية، زرقاء مموّهة، والجّلاد محمد الحلبي، كما ناداه. رفع الغطاء عن رؤوسنا، وبدأ بعدنان وأحمد. كانا يصطادان بسلاحٍ غير مرخّص، لكلٍ منهما عشرون جلدة كانت كافية لإخراجهما من غرفة التحقيق بعد تغطية رأسيهما وبقينا أنا وعبد الرحمن.

“اليوم ما إلي مراق حقق معك ومعو، وبكرا ما إلي. مبدأياً رح نكرم ضيوفنا 3 أيام وبعدين ممكن نحكي”. ثم خرج من الغرفة. “أشلح أنت وياه ضلّو باللباس الداخلي بس” قالها محمد الحلبي وهو يتقدّم باتجاهنا. يدخل أيدينا ببعضها ويشد “الكلبشات” عليها حتى أصبحت كحلقتين في سلسلة، يرفع أيدينا ويربطها بالجنزير ويرفع الجنزير حتى باتت أصابعنا تلامس الأرض بصعوبة، فلا أنت معلّق بالسماء ولا ملامس للأرض، يقدّمنا قرابين من دم. غطّى رؤوسنا، ثم سمعنا صوت طقطقة حذائه الأسود. خرج بكل هدوء، أغلق الباب، التزمنا الصمت خوفاً من تربصه بنا.

يدان مرفوعتان للإله عنوة، خيطٌ من الدماء رُسم إثر جرحٍ بفعل “الكلبشات”  قدمان مشدودتان تحاولان لمس الأرض بأطراف الأصابع حتى لو لم أشأ ذلك، أنينٌ يصدر مني لا أستطيع إيقافه، ويكمل معي عبد الرحمن الأنين. كان تعارُفنا الأول، مُجرِمان من تراب الوطن، لم يهُن عليهما أن يبقى معلقاً كما هما الآن، رأيا في نفسيهما عزّة مُنتصبة، في وقتٍ مُسحت فيه كلمة الإنسانية من القاموس في طوفان الدماء بذلك القبو. لا محتلّ باقٍ، ما كانوا فعلوا هذا بنا لو لم يخافوا، وها هم الآن يعلّقون قلبين منتصرين وسط الهزائم.

يزداد الأنين شيئاً فـشيئاً. “إذا بدك حاول تسند إجرك ع إجري وارتاح شوي” قالها عبد الرحمن بصعوبة بالغة. وقفت على قدميه. لا نعرف الوقت، نقدّر المدة، ولا نستطيع الإطالة خوفاً من دخولٍ مفاجئ. تبادلنا الأدوار، فبات يقف هو على قدمي، ولكن لم يكن ذلك كافياً ليخفف الألم كثيراً. “هذا اسمو شَبْحْ، مشان لما نطلع بكرا نقول للشباب إنو صرنا معتقلين سياسيين وصرنا ننشبح” لا يستطيع عبدالرحمن إخفاء الوجع من صوته رغم محاولته ذلك. نضحك على أوجاعنا، يمضي الوقت أو يكاد، وكلانا شبه فاقدٍ للوعي. صحونا على صوت فتح الباب بقوّة، إنه محمد.

– الجزء الثالث –

نائمٌ حدّ الموت أو أبعد – الفكرة الجريمة

تتعلّم أن تحفظ وجه جلاّدك من صوت حذائه. نسقط من السماء السابعة، أو على الأقل هذا ما أحسست به، قام بفك الجنزير بشكلٍ مفاجئ، ثم الكلبشات، رفعنا معاً وجرّنا حتى الباب، مع رفسٍ مستمر. أصوات الصراخ والأنين تملأ الممر. تجمع حواسك بالسمع، الكل مُرتجف القلب، وحده الموت من يتجوّل بطمأنينة، لا يخاف من الجلّاد، ولا من الضحيّة، لا يأبه بالشَبحْ ولا بالكبل ولا بالدولاب. لا يعنيه المحققون، ولا “مُخرِّبو” الوطن، ولا حتى محمد الذي يخنق ما تبقى من حياة.

نصل إلى الزنزانة، خطوتان كانتا كافيتين لرمينا على الأرض، يمسحون أيدينا وأقدامنا من الدماء، كل شخصٍ منهم ترك لنا قليلاً من الخبز، يطعموننا، وننام، إلى حد الموت، أو أبعد.

أصبح هذا روتيناً لثلاثة أيام، يتكرّر بتفاصيله. اليوم الرابع، التفقد، انتهى التفقد، لم يُنادَ علينا. السجن أصعب مما تتخيّل، ثقيلةٌ أيامه ولياليه، وطأة ظلامه، الانتظار القاتل حتى إن لم يعذّبوك، هل نسونا؟! هل استقبلونا وسنبقى هنا فقط؟ لماذا لم يأخذونا اليوم؟ هل حصلوا على الهاتف المحمول؟ الحاسوب؟ تعصف بك الأسئلة حتى تنتهي منك، ولا تنتهي أنت منها.

يمضي اليوم، تتشابه الأيام، رائحة العفن والدماء، الأنين من حولك، جلود المعتقلين والجدران المتشابهة، في كلِّ شقٍّ ذكرى، جميعها تألفها؛ المألوف المكروه.

اليوم الخامس يمضي كسابقه، حتى وقت العصر. يفتح السجّان الباب “سرمد لبرا”. أخرج معطياً ظهري فوراً لتغطية الرأس وكلبشة اليدين. أمشي الممر، أدخل للغرفة، أتخيلها غرفة مشابهةً لغرفتنا الأولى. “جاثياً على الركبة”. أجثو، خافض الرأس، صريرُ قلمٍ بطيء مرافق للكلام. إذاً هناك شخصان. “سرمد يا سرمد، والله ليك مو باين عليك ناقصك شي، حتى عمرك باين عليك أكبر منو، وابن دكتور، يعني لازم تكون متربي، ليش لتحمل سلاح؟” بدأ بتهمة السلاح، محضراً نفسه على الأقل لأن يخرج مني باعتراف تظاهر في أسوأ الأحوال. “ما شلت سلاح ومو مستعد أشيل سلاح” ضربة من الخلف بـالكرباج كانت كفيلة بأن أُطرح أرضاً ويجلس عليّ شخصٌ يبدو أنه الثالث. الركبتان أسفل كتفي بقليل، يحاول الضغط بهما. “فيك تجاوبو باحترام لسيادة المحقق مشان نضل محترمينك”. يحاول جاهداً إخفاء لهجته الأساسية وهو يقول الجملة. يكمل المحقق: “شوف يا سرمد، فيك تحكي برواق ونجيبلك كاسة شاي وتسمعنا. خلص رح صدقك ما شلت سلاح، بس كمان لا تقلي إنك ما صورت وما طلعت مظاهرات، رح نزعل.” يبتعد الجاثم على ظهري. “امبلا، طلعت مظاهرات، وما زلت أطلع”. ينهال عليّ بالضرب على ظهري وأسفله وقدمي، دقائق ويتوقّف. “طيب يا سرمد خلينا نسمع سوا”. قام بتشغيل مقطع فيديو لمظاهرة بصوتي. “سمعت يا سرمد، نحنا ما منظلم حدا، هاد صوتك وهي من الجزيرة”.  لا يخطر ببالي سوى جواب وحيد:”الجزيرة يلي بتقولوا عنها فبركة سيادة المحقق؟ أكيد هي من ضمن الفبركة”. جملة كانت كافية ليتوقف التحقيق الشفهي ويخاطبني بلغته التي يفهمها. تتوالى الضربات، يستمر مع أخذ أوقاتٍ مستقطعة، ليتوقف بعد وقتٍ قدّرتهُ بساعة. أعود مترنّحاً للزنزانة.

لم أستيقظ إلا برفسة توقظني من النوم. أحسست أنني نمت دون شعور منذ التحقيق الأول. يغطي رأسي، يضع الكلبشة ونمشي ذات المسافة الصباحية والاتجاه، نفس الأصوات عادت تتردد، جاثياً. أعاني من الناميات الأنفية مما يسبب صوت نفس عالي. “إذا ما قدرت تخفي صوت نفسك حاول تكتمو مشان ما أكتملك ياه” قالها وأظنه كان مشغولاً بشيءٍ ما. أسحب النفس ببطء شديد، أزفره محاولاً الكتم قدر الإمكان. ترافقني الرجفة، برداً أو خوفاً لا فرق، الأهم أنها تسبب صرير أسناني. “أي يا سرمد، مو ناوي تعترف وتخلينا نخلص وأرجع ع بيتي مرتاح وأعمللك إخلاء سبيل ع بيتك مرتاح؟ مين كان يصور معك؟ من وين كنت تبعت للقنوات؟ شو في شي لسا ما منعرفو؟ رغم إنو شوف منعرف كلشي بس حابب أسمع منك”. لا مجال هنا للتفكير، كلما أسرعت بالجواب كانوا أكثر ثقةً بصدقك. “ما صورت شي، كنت قادر قلك إنو ببساطة أنا مو عامل شي وأعمل حالي مسكين، بس قلتلك إنو طلعت مظاهرات لإني مآمن إنو رح تعمل للبلد شي صح”. يأمر بفكّ عصابة العينين “الطماش” ويكمل: “شوف كيف صرت أحسن منك وفكيت عن عيونك لحتى تشوفني. يا سرمد اعتبرها نصيحة مني، أنت لساتك صغير والمستقبل قدامك، ممكن نسكر كل الأبواب بوجهك وممكن نفتحلك ألف باب تساعدك، أنت حر بخيارك، تفضل على هالكرسي، وهي اللاب توب قدامك أفتح الفايسبوك أو هاد الياهو، اللي هو، الشي يلي تبعت عن طريقو الفيديو، وقلي لمين وريحني وريح حالك”. تتقاطع خيوط رواية المعتقلين كافة في هذه اللحظات،  تختلط أهمية حياتك مع حيوات المحيطين بك، تبدأ بترتيب أولوية الأهم، من يجب أن يبعد عنهم الخطر، وبمن التضحية الممكنة إن لم تستطع. كانت أمي تخبرني كثيراً عن “مصيبةٍ لا تتمناها لعدو” ولم أتمنّ لأحدٍ أن يمر بما مررت به. “ايميلي عليه مواقع تشات وما عليه أي شي وتفضل راح أسجللك الدخول فيه”. ضربٌ مستمر باليد على الرقبة لإدخال كلمة مرور خاطئة رغم أنه بريد الكتروني قد قمت بتحضيره مسبقاً لهذه المواقف. فتح في المرة الثالثة، مواقع تعارف، دردشة، وعديد من المنتديات، لم يقتنع. “ما بعرف ليش مفكرني مساعد بالجنائية، ما عم تفهم شو يعني محقق بفرع أمن عسكري؟ مو مشكلة”. وضع الطماش على عيني، الكلبشة في يدي، وضّب أغراضه من الطاولة، حملها، وخرج. دقائق تمرّ، لا أحد يراقب تنفسي، لا سجّان، لا سوط يسجل عليَّ الوقت، فُتح الباب “جاثياً ع الأرض”. تغيّر الصوت. وضعني داخل دولاب، وبدأ بضربي بالكرباج. يبدأ بالقدمين، ويصعد تدريجياً. يخرج الصراخ دون أيّ تحكّم. يستمر مع أخذ بعض الاستراحات التي يقوم خلالها بسكب دلوٍ من الماء شديد البرودة. استمر لساعات، حضّر فيها كأساً من شيءٍ أسمع صوته وهو يشربه، أشم رائحة السجائر، وللأسف إذ بدت الغرفة غير مخصصة للمدخنين، فعندما لم يجد “نفّاضة” اضطر أن يطفأها بقدمي. أُنهكت، فقرر العفو عني شرط أن أستطيع الوقوف دون مساعدة حتى أذهب. بعد عدّة محاولات استطعت ذلك، أجرُّ نفسي وهو يقودني للزنزانة، أدخل فيها، ويُغمى علي.

هو نموذج فقط، يمثّل نظاماً أرعن، يرى في الفكرة جريمة، يتحوّل من خطرت له إلى مجرمٍ يستحقّ أن تحضنه الزنزانات، يريد منا ألا نهلوس بالحريّة، الحرية التي يكرهها النظام المستبدّ، تعرّيه.

“سرمد.. سرمد.. مو منيح إنو تضل نايم، فيق مشان تغسّل”. إنّه صوت عبد الرحمن. يبدو أنني لم استيقظ حتى مساء اليوم التالي، عدا عن لحظات التفقّد. “خلص ارتاح حالياً، يا أما يجيك تحويل أو إخلاء سبيل، كل الشباب هيك صاير معاهم”. يقولها مبتسماً. عبد الرحمن شاب من مدينة الطبقة، من المثقفين القلّة، يناقش الجميع بضحكة لا تفارقه أبداً، كان يعمل في المركز الثقافي في الرقة مما أتاح له فرصة قراءة كتب كثيرة، داهموا منزله ليجدوا كتب ممنوعة من قبل النظام، مع صوره في عدّة مظاهرات، كانت كافية لاعتقاله.

زوّارٌ جدد يدخلون في اليوم التالي، يتحدث الجميع عن طاهر الذي تم تحويله إلى المنفردة بقربنا. “ما قدروا يعتقلوه إلا ضربوه رصاصة برجلو وهو استعصى وضرب الوريد برقبتو بشفرة” يقولها متعجباً بقوة طاهر وهو يصفه شابٌ من الدفعة الجديدة، يكمل بذات التعجب: “هو طويل وضخم، بس قدر عليهم”. تمضي الساعات، يقررون إخراج طاهر للتحقيق، نتهافت بهدوء وسرعة، من يصل أولاً لفتحةٍ صغيرةٍ في الباب يرى طاهر. شابٌ طويل، عريض المنكبين، على قدمه جهازٌ خارجي لسند العظم إثر الرصاصة التي سببت تفتيته، قطبة طبيّة على الوريد برقبته، هابه السجّان! أخرجوه للممر، جميعنا صامت، الكلّ ينتظر أي صوتٍ من الممكن سماعه، لا شيء! نحاول كسر روتين السجن بانتظار ما يحدث مع طاهر، يبدو أنهم أخذوه لغرفة التحقيق البعيدة. يمرّ الوقت دون أيّ كلام، يعود كلّ شخصٍ منا لما يفعله، هو لا شيء، ولكن ما من شيءٍ نفعله أساساً، جلوس وانتظار فقط.

يُفتح باب الممر بقوّة، صوت حذاء السجّان يقترب، يفتح باب الزنزانة ثم يلقي بطاهر بيننا على الأرض، يغلق الباب. ننتظر ابتعاده، ونبدأ بمسح جروح طاهر من رأسه حتى قدميه. لو كنا كلاباً في تلك البلاد البعيدة لجلسنا الآن بجانب الموقد، نأكل ولا شيء نفعله سوى أننا نُدلَّل، ويحموننا أيضاً، أما هنا تنتظر دورك، يضمّدون جراحك أو تُضمِّد جراحهم.

لم تمضِ ساعة على إدخال طاهر حتى استيقظ مما كان به، دقائق قليلة كانت كافية لكي يقف بصعوبة، يضع يده على فتحة الباب! هي كـنافذةِ القبر، لا أحد منا استطاع سابقاً الاقتراب منها، حكرٌ على السجّان وأصدقائه. “يا سيادة المحقق أنا كنت شب طايش ومطبّق بنات كثير، معقول أختك من بيناتهم وحاقد علي لهلدرجة؟ طيب معقول أنا قاتلك شي مرة ومن يومها حامل بقلبك؟ يعني لو قايللي كان تسامحنا برا بدل ما تعذب حالك”. يصرخ طاهر و يضحك بآنٍ واحد. أسمع دقات قلوب من معي، وتقريباً كنت متأكّداً من سماعهم لدقات قلبي. “هو العمر واحد والرب واحد، من الأول كنا نعرف حالنا طالعين وممكن نموت، خلينا ع الأقل نموت واحنا مرعبينهم، يعني معقول كل هالناس يلي يقتلون بينا بس لإنو إحنا خايفين؟ لأ هم خايفين منا أكثر من خوفنا منهم”. يحاول طاهر أن يُسمع السجّان كلامه رغم توجيه الكلام لنا، يدخل السجّان مع عنصرين آخرين، يفتح الباب بقوة، ينهال على طاهر بالضرب ويخرجونه سحلاً. كانت تلك المرة الأخيرة التي أرى فيها طاهر في فرع الأمن العسكري بدير الزور.

– الجزء الرابع –

نائمٌ حدّ الموت أو أبعد – أعلنّاها ثورة حريّة

رغم كلّ ما مررنا به خلال أسبوع من ضربٍ و تعذيبٍ وقلع أظافر وكهرباء تسري بأجسادنا أكثر مما تسري في أكبال السجن، ما زال هناك بيننا من يقوى على الثورة ضد سجّان.

في اليوم الثامن أخرجونا، أنا وعبدالرحمن وعدّة سجناء آخرين، على باب الزنزانة. أسند المحقق أوراقاً على الحائط وهو يحمل القلم: “وقّع ع السريع”. أحاول قراءة ما أستطيع من الورقة المكتوبة بخطِّ اليد. يبدو أنه محضر تحقيق. يقاطعني ضرباً باليد وعصى حديدية. “وقّع من دون ما تقرا يا جحش، قلتلك وقّع ما قلتلك أقرا”. يكمل حديثه بالشتائم. أُوقّع. ننتهي جميعاً ويدخلنا مجدداً للزنزانة.

ننتظر. لسنا قادمين من أفغانستان، ولسنا إرهابيين، لم يعرف أحدٌ منّا كيف تُزرع عبوةٌ ناسفةٌ، ولم يعلن أي منّا أنّه جهادٌ مقدس. أعلنّاها ثورة حريّة، لم نتّهم أحداً بالكفر، ولم نحاول تطهير البشريّة. لسنا قتلة. لم نؤذ أحداً، كان ذنبنا الوحيد الذي اجتمعنا عليه هو التفكير بصوتٍ عالٍ وطرح مطالبنا بوضوح وثقة.

تمرّ الأيّام، نعتمد تقويمنا، نحفر خطّاً عامودياً على الحائط عن كلّ يومٍ يمضي. تصبح أربعة، يأتي الخامس بشكلٍ أفقي لسهولة جمعها، ودائرةً صغيرة على كل خط يخرج فيه أحد من الزنزانة، ولكنّها ليست بأفضل طرق الحساب – وهذا ما اكتشفته لاحقاً – لأشخاصٍ مثلي تنقلّوا من فرعٍ إلى فرع وتركوا خطوطهم ودماءهم تزيّن الجدران.

يأتي السجّان ويأخذ عبد الرحمن بعد إخباره بتوضيب أغراضه، يحمل عبد الرحمن وصايانا وما استطاع حفظه معها من الأرقام ليطمئن أهالينا، يذهبان معاً، وأبقى وحيداً مع سبعة وثلاثين وحيداً آخرين معي.

بعد أيّام جاء اليوم المنتظَر. يدخل السجّان في وقت التفقّد لا يذكر اسمي. “سرمد ضب أغراضك و تعا معي”. لم يقم بتغطية رأسي ولا وضع الكلبشة. سعادةٌ تكاد تنسيني الأرقام التي أوصاني بحفظها من كانوا معي. نخرج للساحة، المراسم التي استقبلونا بها يحضرونها الآن، لا بد أنها ستكون الوداع. يضعون الأمانات في أكياس، يربطوننا بجنزيرٍ طويل، أشعر بقلبي ينبض أسفل قدمي. “جنزير الشام صار جاهز، أسحبوهم ع الباب تحويلهم بعد يومين من الشرطة العسكرية” يقولها عسكري بكلّ فخر، يرتدي قبّعته الحمراء، ثم نصعد جميعاً إلى الباص. نخرج من الفرع. بيت جدّي، نمرُّ من أمامه! بعض المدن تكون حكاياتك الدرامية، تكتب مصيرك من قبل بدء التاريخ، أن يصبح منزل طفولتك والمراهقة عنواناً نازفاً للدم، موطئ تضحيتك الأول، تُثْقَلُ بالثورة في الباص. لحظاتٌ والمنزل على مرأى عيني تفصلنا أمتارٌ وحاشية طاغية. أنا ومنزلنا، ويفصلنا نظامٌ بأكمله، وكأن شاباً بلغ الرشد في ذاك العام كان سبباً لما حدث للبلاد، كانت دمعتي الأولى.

ندخل الشرطة العسكرية في دير الزور، ينزلوننا جميعاً. حديقة صغيرة في الساحة، يجلس جنبها ثمانية عساكر يحمل كلٌّ منهم كرباجه الخاصّ، إطارات من مختلف الأحجام مرميّة على الأرض. يأخذ أحدهم أوراقنا وأكياس الأمانات، ويستقبلنا من تبقى منهم. فكّوا الجنزير عنّا،  كل شخصٍ منهم اختار أحدنا، اختار له الإطار المناسب، ثم “دولبونا”. هكذا سمّوا ما فعلوه بنا داخل “الدولاب”. يضع الإطار محيطاً بي، يمددني أرضاً ويشرع بالضرب حتى يرى الدماء سالت من قدمي، بشرط ألّا تكون أقل من خمس عشرة ضربة. يدخلوننا للسجن، ثلاث صالات كبيرة جداً يصل بينهم موزّع كبير، حمامٌ كبير، أصوات المساجين تعلو. بعد ساعاتٍ سيحين موعد الغداء، من منكم يريد شيئاً! نتفاجئ بأنه بإمكانك هنا الدفع للسجّان كي يجلب لك ما تريد من طعام. المال في الأمانات! ما من فائدة. يأتي الغداء بعد ساعات، سنكسر حمية البرغل والبطاطا وبقايا العظام التي كانت دجاجة، حلاوة. نتشارك الطعام مع باقي السجناء. تبدأ الزيارات. أحدهم يعرف خالي، خرج للزيارة وأخبر زوجته أن تتصل بأهلي، يتصلون، يأتيني العسكري خلال ساعة حاملاً لي ألفاً وخمسمئة ليرة وبيجاما جديدة كانت أكبر من مقاسي، أو كانت بمقاسي السابق قبل دخولي للسجن. لا مشكلة، ما يهمني أن أخفف من أحمالي وتفكيري في السجن، سأنزل حملي الأهم حالياً وأحفظ الجاكيت الأزرق بعد توضيبه جيداً في كنزتي لأرتدي البيجاما الجديدة. “هي الأغراض إلك، وأنت ممنوع من الزيارة، جابها حدا من طرفك”.  لاحقاً، بعد خروجي سأكتشف أن من أتى بالأغراض هو أغيد. لم يدخله العسكري وأخذ منه ألف ليرة للسماح بتوصيل الأغراض لي. عند دخول أي زيارة يقومون بأخذ الهوية الشخصية، لو دخل أغيد لما خرجنا، كان أحد المطلوبين الذين ركّز عليهم المحقق.

نعود للداخل وأرتدي ملابسي الجديدة، نجلس في انتظار النقل، يومان، ننقل في الثالث للرقة، مفرزة الأمن العسكري. المراسم نفسها، رضعوا جميعهم النذالة من ثدي البعث. يومان آخران، إلى حلب، الشرطة العسكرية في الجميلية، كانت زيارتي الأخيرة لحلب. استراق النظر من نافذة الباص وهم يضعون رأسك بين قدميك هو أحد الأسباب المهمة لشعورك بالانتصار، تحدّث نفسك برؤية الشارع، الناس، بعد أن كنت تمنّيها ذلك لأيام. “بن اليمني” كان المحل الذي لمحته عيني قبل كل شيء، لا أزال أذكر الاسم حتى اليوم، بعد أربع سنوات.

نصل إلى مقر الشرطة العسكرية، يغطون أعيننا ويفكون الجنزير. ندخل البناء. غرفة كبيرة، يقارب عددنا الأربعين شخصاً. “الكل ع الحيطان وأشلح أنت وياه مع حركتين أمان ع السريع” يقولها بصوتٍ حاقد وهو يرفع الأغطية عن رؤوسنا. عسكريّ لا يتجاوز طوله متراً وسبعين سنتيمتراً، هزيل، يحمل عصى سوداء تكاد تكون بطول قدمه. عدنا عراة، نقف لدقائق وهو يفتّش. كانت المرّة الأولى التي نتعرض فيها لتحرّش. بدأ بتمرير العصا على المناطق الحسّاسة ومن الخلف، ولم يخل الأمر من ضرباتٍ خفيفة يحاول فيها الاستفزاز. تحرّش بالجميع، يبدو أنه كان يأخذ بثارٍ قديم. اغتصبتهم هتافاتنا سابقاً وسنحت له الفرصة الآن للثأر. يأمرنا بارتداء ملابسنا من جديد، أعاد لكل شخص منا نقوده وأخذ باقي الأمانات، وزعونا على الزنزانات، ندخل للزنزانة، دخّان وشاي، المحرّمات! تظن نفسك في حلم، لا يوقظك منه إلا طعم الشاي وسحبةٌ من سيجارة “حمراء” تعيدك للحياة من جديد. نطلب إبريق شايٍ كبير سعته خمسة ليترات رغم أننا كنا سبعة فقط، نطلب الدخان وكثيراً من الطعام. تطلب الطعام وأموراً حياتية أخرى هي من حقوقك، ثم تشكرهم على جلبها لك بنقودك وأنت في سجنهم وتتعذب! أرتدي حذاءً رياضياً، أقتنص فرصة انشغال الجميع وأرفع أرضية الحذاء لأضع تحتها سيكارة “حمراء” – أتطرّق لاحقاً لما فعلته بها.

مضى اليومان بسرعة، أخرجونا جميعاً للنقل. ذات الغرفة الكبيرة، طاهر هنا! ربطونا جميعاً في الجنزير، يتعالى صوت شجار بين أحد العساكر وطاهر. “أنا قلتولك من طول عمري شيخ ربعي ومو أنت ولا غيرك يقدر ما يخليني شيخ ربعي، بدك تفك الجنزير وتحطني أول واحد حصراً” يصرخ طاهر غير آبه بأي شيء. بعد جدالٍ عقيم يقوم العسكري بفك الجنزير ووضع طاهر أولاً ويربطه من جديد. يبدأ العقيد خلف الطاولة بختم أوراق النقل، يتقدم طاهر ماشياً بهدوء، أنظارنا تشخص لما يريد فعله، يسحب ربطة خبز من الخزانة المجاورة للعقيد، يبدأ بالتوزيع للسجناء، فيصرخ به العقيد. “يا سيدنا أنا ما أعرف الصبح إذا ما أفك ريقي بلقمتين، وحسبتو حساب يلي ياكل لحالو يغص، قلتو خلينا نوزع على هالشباب مساكين”. مهما حاول إظهار الجديّة تبقى ابتسامة طاهر على الوجه وهو يتحدث،  ينهال عليه العسكري بالضرب، يسقط طاهر أرضاً، ينتظر ابتعاد العسكري، يقف بصعوبة ويجلس على الكرسي الحديدي المقابل للطاولة، يرفع العقيد نظره محاولاً ألا يغضب، يقترب العسكري بسرعة لضرب طاهر. “طيب يا سيدنا احنا مو كلنا ولاد السيد القائد، ترضاها إنو أخوك بهالوطن من السيد القائد ما يقعد ع الكرسي ويستريح شوي؟” لم يستطع  العقيد كتم ضحكةٍ خرجت بالقوة وهو يسمع كلام طاهر. انتهى من ختم الأوراق، ساقونا، ننتظر باصاً في الساحة. هه، كنا ننتظر سيّارة كبيرة لنقل الخضار، نصعد في برادها الخلفي، ثلاثة وتسعون شخصاً نتكدّس مشبعين بكل معنى الكلمة. يعلمني صديقي كيف أُرخي الكلبشة لأن الطريق طويل. لا أحد يتكلم، صمتٌ وخوفٌ من القادم.

 

للقراءة في الموقع الأساسي حيث تتوفر الترجمة للغة الإنكليزية و عدّة لغات أخرى : https://ar.globalvoices.org/author/sarmadaljilane/